معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

20- وجوب تقليد الأعلم

  • ٢١٩٩٩

وجوب تقليد الأعلم


 


[ 12 ] مسألة 12 : يجب تقليد الأعلم مع الامكان على الأحوط ((1))  (1) .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


المرجحات في باب التزاحم . وبعبارة اُخرى المكلف في الحكمين المتزاحمين لما لم يتمكن من امتثالها معاً ، لم يمكن التحفظ على إطلاق خطابيهما إلاّ أنه لا موجب لسقوطهما على نحو الاطلاق ، لأنه متمكن من أحدهما ، إذن لا مناص من تقييد إطلاق كل منهما بعدم الاتيان بالآخر ونتيجته التخيير بينهما في مقام الامتثال ، وإذا فرضنا أن أحدهما أهم أو محتمل الأهمية لزم التحفظ على إطلاق الخطاب فيه وتقييد الاطلاق في الآخر المهم بصورة عدم الاتيان بالأهم أو محتمل الأهمية .


   وهذا الوجه متين وعليه لا مسوّغ للعدول في مفروض الكلام بناءً على التخيير في الدليلين المتعارضين ، أللّهمّ إلاّ أن يكون المجتهد الثاني أعلم لأن المكلف إن علم بالمخالفة بينهما وجب عليه العدول وإن لم يعلم بها جاز له البقاء على تقليد الأوّل كما جاز له العدول إلى المجتهد الأعلم كما مرّ .


   وأما بناءً على ما هو الصحيح من التساقط عند التعارض فالفتويان تتساقطان ويجب على المكلف الاحتياط إن أمكن وإلاّ تخيّر بين العمل بهذا أو بذاك ، لتنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند العجز عن الامتثال الجزمي كلما تقدم ، وهذا تخيير في مقام الامتثال وليس من التخيير في المسألة الاُصولية لمكان حجية إحداهما شرعاً .


   وجوب تقليد الأعلم


   (1) هذا هو المعروف بين أصحابنا (قدّس سرّهم) وعن ظاهر السيد في ذريعته انه من المسلّمات عند الشيعة . بل عن المحقق الثاني دعوى الاجماع عليه ، ونسب إلى جمع ممّن تأخر عن الشهيد الثاني (قدّس سرّه) عدم الوجوب وجواز الرجوع إلى غير الأعلم ، وتفصيل الكلام في ذلك يقع في موردين :


   أحدهما : فيما يستقل به عقل العامي في نفسه ـ أي من غير تقليد في المسألة ـ وأن وظيفته هل هي الرجوع إلى تقليد الأعلم أو التخيير بينه وبين تقليد غير الأعلم ؟


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) بل وجوبه مع العلم بالمخالفة ولو إجمالاً فيما تعم به البلوى ، هو الأظهر .


ــ[107]ــ


   وثانيهما : فيما تقتضيه وظيفة المجتهد حسبما يستظهره من الأدلة الاجتهادية وأنه هل يمكنه الافتاء بجواز الرجوع إلى غير الأعلم أو ليس له سوى الحكم بوجوب تقليد الأعلم ؟


   أمّا المورد الأوّل : فلا ينبغي التوقف في أن العامّي يستقل عقله بلزوم الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى ، وذلك لدوران الأمر بين أن تكون فتوى كل من الأعلم وغيره حجة تخييرية ، وبين أن تكون فتوى الأعلم حجة تعيينية للعلم بجواز تقليد الأعلم على كل حال سواء استند في أصل مشروعيته إلى الارتكاز وبناء العقلاء أم استند إلى دليل الانسداد ، ففتوى الأعلم إما أنها في عرض فتوى غير الأعلم فالمكلف يتخير في الرجوع إلى هذا وذاك أو أنها متقدمة على غيرها ، وحيث إن فتواه متيقنة الحجية وفتوى غير الأعلم مشكوكة الاعتبار فيستقل عقل العامّي بوجوب تقليد الأعلم وعدم جواز الرجوع إلى غيره للشك في حجية فتواه وهو يساوق القطع بعدمها ، فإن غير ما علم حجيته يقترن دائماً باحتمال العقاب ، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب .


   إذن النتيجة وجوب تقليد الأعلم حسبما يدركه عقل العامّي واجتهاده ، وقد قدّمنا أن مسألة جواز التقليد ليست تقليدية .


   وأمّا المورد الثاني : فتفصيل الكلام فيه أن للمسألة صوراً ثلاثاً :


   الاُولى : ما إذا علمت موافقة الأعلم وغير الأعلم في الفتوى بجميع خصوصياتها .


   الثانية : ما إذا علمت مخالفتهما في الفتوى كما إذا أفتى الأعلم بوجوب شيء وأفتى غير الأعلم بحرمته أو باباحته .


   الثالثة : ما إذا شككنا في ذلك ولم يعلم موافقتهما أو مخالفتهما .


   أما الصورة الاُولى : أعني صورة العلم بالموافقة فهي وإن كانت من الندرة بمكان إلاّ أنها لو اتفقت في مورد لم يجب فيها تقليد الأعلم بوجه ، وذلك لأن الحجية على ما  تقدم من أدلتها إنما ثبتت لطبيعي فتوى العالم أو الفقيه على نحو صرف الوجود والعامّي إذا عمل بفتياهما فقد عمل على طبق فتوى الفقيه ، وهذا يكفي في الامتثال ، إذ لم يقم دليل على وجوب تعيين المجتهد المقلد له وتمييزه ، فإن حال المقام حال ما إذا قام 


ــ[108]ــ


خبران على وجوب شيء فإن المجتهد إذن أفتى بالوجوب مستنداً إلى الجامع بين الخبرين فقد استند إلى الحجة وعمل على طبقها من دون أن يجب عليه تعيين ما عمل به وأنه أيهما .


   وأما الصورة الثانية : أعني ما إذا علمت المخالفة بينهما ولو على سبيل الاجمال ، كما إذا علم بمخالفتهما في المسائل الّتي هي محل الابتلاء ، وكان فتوى غير الأعلم على خلاف الاحتياط ، أو كان كل منهما موافقاً للاحتياط من جهة ومخالفاً له من جهة فقد قدّمنا أن المعروف بين أصحابنا وجوب تقليد الأعلم ، وعن شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) أنه لم ينقل فيه خلاف عن معروف (1) . بل ادعى بعضهم عليه الاجماع . وذهب جماعة ومنهم صاحب الفصول إلى جواز الرجوع إلى غير الأعلم (2).


    أدلّة عدم وجوب تقليد الأعلم


   واستدل عليه بوجوه : عمدتها التمسك باطلاق الأدلة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه وحجية رأية وفتواه ، فإن قوله عزّ من قائل : (فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدّين )(3) والأخبار الآمرة بالرجوع إلى يونس بن عبدالرّحمان أو زكريا بن آدم وأمثالهما ، وكذا سائر الأدلة الدالة على جواز تقليد الفقيه ، لم يتقيد بما إذا كان العالم أو الفقيه أعلم من غيره . بل مقتضى إطلاقها جواز الرجوع إلى كل من الأعلم وغيره إذا صدق عليه عنوان العالم أو الفقيه أو غيرهما من العناوين الواردة في الروايات علمت مخالفتهما أو موافقتهما في الفتوى أم لم تعلم ، هذا .


   بل ربّما يقال : إن الغالب بين أصحابهم (عليهم السّلام) الّذين أرجعوا الناس إلى السؤال عنهم في الأخبار المتقدمة ، هو المخالفة في الفتوى لندرة التوافق بين جمع كثير ومع غلبة الخلاف لم يقيّدوا (عليهم السّلام) الرجوع إليهم بما إذا لم تكن فتوى من أرجع إليه مخالفة لفتوى غيره من الفقهاء ، مع العلم العادي باختلافهم أيضاً في 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد : 71 .


(2) الفصول الغروية : 423 .


(3) التوبة 9 : 122 .


ــ[109]ــ


الفضيلة ، لعدم احتمال تساوي الجميع في العلمية والفقاهة ، وهذه قرينة قطعية على أن الأدلة المتقدمة مطلقة ، وأن فتوى غير الأعلم كفتوى الأعلم في الحجية والاعتبار وإن كانت بينهما مخالفة .


   وفيه : أن الغلبة المذكورة لا يمكن أن تكون قرينة على المدعى ، والوجه فيه أن المخالفة في الفتوى وإن كانت كثيرة ، بل هي الغالب كما ذكر وكذلك اختلافهم في الفضيلة والعلم ، إلاّ أن العلم بالمخالفة أمر قد يكون وقد لا يكون ولم يفرض في شيء من الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الرواة المعيّنين علم السائل بالخلاف ، وكلامنا في الصورة الثانية إنما هو في فرض العلم بالمخالفة بين الأعلم وغيره ، فالأخبار المذكورة لو دلت فانما تدل على المدعى بالاطلاق لا أنها واردة في مورد العلم بالمخالفة لتكون كالنص في الدلالة على حجية فتوى غير الأعلم في محل الكلام ، فليس في البين إلاّ الاطلاق .


   ويرد على التمسك بالاطلاق : انا ذكرنا غير مرّة في البحث عن حجية الخبر والتعادل والترجيح(1) وغيرهما، أن إطلاق أدلّة الحجية لا يشمل المتعارضين ولا مجال فيهما للتمسك بالاطلاق ، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية كما إذا ورد خبران دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته أو قامت بينة على طهارة شيء والاُخرى على نجاسته ، فإنه لا يشمل أدلة اعتبار الخبر أو البينة أو غيرهما من الحجج والأمارات شيئاً منهما ، وسرّه أن شمولها لكلا المتعارضين يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين ، وشمولها لأحدهما المعيّن دون الآخر بلا مرجح ولأحدهما المخيّر أعني أحدهما لا بعينه لا دليل عليه ، لأن مفاد أدلة الاعتبار إنما هو الحجية التعيينية لا حجية هذا أو ذاك . إذن مقتضى القاعدة هو التساقط في كل دليلين متعارضين ، أللّهمّ إلاّ أن يقوم دليل على ترجيح أحدهما أو على التخيير كالأخبار العلاجية وهو مختص بالخبرين المتعارضين ، ولا دليل عليه في سائر الدليلين المتعارضين ، والمقام من هذا القبيل فاطلاقات أدلة التقليد غير شاملة لفتوى الأعلم وغيره مع المعارضة ، بل لا بدّ من الحكم بتساقطهما كما في غير المقام، هذا .


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) مصباح الاُصول 3 : 366 .


ــ[110]ــ


   وقد يقال ـ كما تعرّضنا له في محلّه (1) ـ أن القاعدة تقتضي التخيير بين المتعارضين وذلك لأن الأمر يدور بين رفع اليد عن أصل الدليلين وبين رفع اليد عن إطلاقيهما مع التحفظ على أصلهما ومتى دار الأمر بينهما يتعين الثاني لا محالة ، لأنه لا موجب لرفع اليد عن الدليلين بالكلية . فإذا ورد خبران دلّ أحدهما على وجوب القصر في مورد مثلاً ودلّ الآخر على وجوب التمام فيه ، لم يمكننا العمل بهما معاً للعلم الخارجي بعدم وجوب صلاة واحدة في يوم واحد مرتين ، فيدور الأمر لا محالة بين رفع اليد عن أصل الدليلين والحكم بتساقطهما وبين التحفظ على أصليهما ورفع اليد عن إطلاقيهما المقتضي للتعيين وقد مرّ أن الثاني هو المتعين حينئذ فإن الأوّل بلا موجب ، ونتيجة الأخذ بالوجوب في كليهما ورفع اليد عن إطلاقه هو الحكم بوجوب كل منهما مخيراً . بل الأمر كذلك حتى في الدليل الواحد بالإضافة إلى أفراد موضوعه ، كما إذا ورد أكرم العلماء وعلمنا خارجاً أن زيداً وصديقه مثلاً لا يشملهما حكم واحد أبداً ، فدار الأمر بين الحكم بعدم وجوب إكرامهما للتساقط وبين التحفظ على الوجوب في كليهما ورفع اليد عن إطلاقهما في التعيين ، فإنه يتعيّن حينئذ الأخير وهو يقتضي الحكم بوجوب كل منهما تخييراً . ومعه لا مقتضي في المقام لرفع اليد عن حجية فتوى الأعلم وغيره أعني الحكم بتساقطهما ، بل لا بدّ من الأخذ بالحجية في كلتا الفتويين ورفع اليد عن إطلاقهما المقتضي للتعيين ، وهذا ينتج حجية كل منهما على وجه التخيير .


   ويرده : أن موارد التعارض بين الدليلين الّتي منها المقام لا يمكن قياسها بما إذا كان لكل من الدليلين نصاً وظاهراً وأمكن الجمع بينهما بحمل الظاهر من كل منهما على نص الآخر فإن القياس مع الفارق ، إذ في تلك الموارد لا مقتضي لرفع اليد عن كلا الوجوبين، بل يؤخذ بنص كل من الدليلين في الوجوب ويطرح ظاهرهما في التعيين وتكون النتيجة هو الوجوب التخييري كما مرّ . وأما في أمثال المقام الّتي ليس للدليلين فيها نص وظاهر بل دلالتهما بالظهور والاطلاق ، فلا مناص من الحكم بتساقطهما فإن الحجية في المتعارضين إذا كانت بالاطلاق أعني إطلاق أدلة الحجية لشمولها لهذا وذاك وهذه الفتيا وتلك ، فحيث إن لكل منهما إطلاقاً من جهة اُخرى أيضاً وهي حجية كل 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) نفس المصدر .


ــ[111]ــ


منهما اُخذ بالآخر أم لم يؤخذ به ، ولا يمكن الأخذ باطلاقهما من كلتا الجهتين لاستلزامه الجمع بين الضدين أو النقيضين ، كان رفع المعارضة بينهما منحصراً برفع اليد عن إطلاق أحدهما أو كليهما وهذا يتصوّر بوجوه :


   أحدها : أن يرفع اليد عن إطلاق الأدلة الدالة على الحجية في أحدهما دون الآخر ، بأن نلتزم بحجية أحد المتعارضين دون الآخر رأساً .


   وثانيها : أن يتحفظ باطلاق الأدلة الدالة على الحجية في كلا المتعارضين فيلتزم بحجية فتوى غير الأعلم مطلقاً سواء اُخذ بفتوى الأعلم أم لم يؤخذ بها، وبحجية فتوى الأعلم مقيدة بما إذا لم يؤخذ بفتوى غير الأعلم بأن تكون حجية إحداهما مطلقة وحجية الاُخرى مقيدة .


   ثالثها : عكس الصورة الثانية بأن تكون حجية فتوى الأعلم مطلقة اُخذ بفتوى غير الأعلم أم لم يؤخذ بها ، وحجية فتوى غير الأعلم مقيدة بما إذا لم يؤخذ بفتوى الأعلم .


   رابعها : أن يتحفظ على إطلاق الأدلة في كليهما فيلتزم بحجية كل منهما مقيدة بما إذا لم يؤخذ بالآخر .


   وحيث إن شيئاً من ذلك لا مرجح له ، فلا يمكننا التمسك بالاطلاق في شيء من المتعارضين لا في أصل الحجية ولا في إطلاقها وتقييدها ، وهو معنى التساقط كما قدّمناه .


   الوجه الثاني : أن وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلفين وذلك للحرج في تشخيص مفهوم الأعلم وفي تمييز مصاديقه وفي وجوب تعلم آرائه وفتاواه ، وهذا لأنه لو وجب تقليد الأعلم وجب على كل مكلف أن يتعلم فتاواه ويحصّل آراءه من مظانها ، وهذا فيه حرج على أهل البلاد فضلاً عن سكنة القرى والبوادي، فالاقتصار على تقليد الأعلم فيه حرج عظيم وهو مرفوع في الشريعة المقدّسة .


   والجواب عنه : أن شيئاً من تلك المراحل لا يستلزم الحرج ، أما تشخيص مفهوم الأعلم فلما يأتي من أن المراد به هو من كان أقوى استنباطاً للأحكام وأمتن استنتاجاً لها من أدلتها ، وهذا يتوقف على معرفته بالقواعد والكبريات وعلى حسن سليقته في 


ــ[112]ــ


تطبيقها على صغرياتها ، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر ، فالأعلم في الأحكام الشرعية كالأعلم في بقية الصنايع والعلوم كالهندسة والطب وغيرهما ، فكما أنه لا حرج في تشخيص مفهوم الأعلم في تلك الموارد فإن الأعلم فيها هو من علم بقواعدها وكبرياتها وكان له حسن سليقة في تطبيقها على مواردها وصغرياتها ، ولا يكفي فيه مجرد القوة على الكبريات أو الاحاطة بالفروع بل يتوقف على أن يكون الطبيب مثلاً مع ما له من الاحاطة بجميع أقسام المرض وأدويتها وطرق معالجتها متمكناً من تطبيق تلك القواعد على مواردها ، فكذلك الحال في علم الفقه كما بيّناه .


   إذن لا حرج في تشخيص مفهوم الأعلم بوجه . وأما تمييز مصاديقه وأفراده فهو أيضاً ممّا لا حرج فيه ، وذلك فإن الأعلمية نظير غيرها من الاُمور تثبت بالعلم الوجداني وبالشياع المفيد له وبالبينة، وهذا لا يمسّه أي حرج .


   وأما تعلم فتاواه فلأنه يتيسّر بأخذ رسالته ، ونشرها من السهولة بمكان وبالأخص في زماننا هذا وما يقاربه ، وهذا لا نرى فيه حرجاً بوجه . على أنا لا نلتزم بوجوب الرجوع إلى الأعلم مطلقاً بل في صورة العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى الّتي هي محل الكلام ، والعلم بالمخالفة إنما يتحقق فيما إذا علم فتوى كليهما ، وهذا كما ترى ليست فيه شائبة أي حرج .


   الوجه الثالث : سيرة المتشرعة ، حيث جرت على رجوعهم فيما يبتلون به من المسائل إلى أي شخص عالم بحكمها من غير أن يفحصوا عن الأعلم بتلك المسألة فلو كان تقليد الأعلم واجباً عندهم لزم عليهم الفحص عن وجوده .


   وفيه : أنه إن اُريد بذلك صورة عدم العلم بالمخالفة بين فتوى الأعلم وفتوى غير الأعلم ، فلا يبعد دعوى قيام السيرة فيها على عدم الفحص عن الأعلم . وأما لو اُريد بذلك صورة العلم بالمخالفة بينهما كما هي محل الكلام ، فلا مجال فيها لدعوى السيرة بوجه . بل هي دعوى ظاهرة الفساد فإن الأمر بالعكس والسيرة جارية على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة كما هو المشاهد في غير الأحكام ، مثلاً إذا عين الطبيب دواءً وخالفه في ذاك من هو أعلم منه ، لم يعتمدوا على معالجته هذه بوجه وإنما يتبعون رأي الأعلم فلاحظ .


ــ[113]ــ


   الوجه الرابع : أن الأئمة (عليهم السّلام) قد أرجعوا جماعة من العوام إلى أشخاص معينين من أصحابهم كيونس بن عبدالرحمان ، ومحمد بن مسلم وغيرهما مع أنهم (عليهم السّلام) موجودون بين الناس ، فإذا كانت فتاوى هؤلاء حجة معتبرة مع وجود نفس الامام (عليه السّلام) كانت فتاواهم حجة عند وجود الأعلم بطريق أولى ، فإن الأعلم لا يزيد عن نفس الإمام (عليه السّلام) .


   والجواب عنه : أن الاستدلال بذلك إنما يتم فيما إذا قلنا بوجوب تقليد الأعلم مطلقاً ، وأما لو خصصنا وجوبه بصورة العلم بالمخالفة بين الأعلم وغيره كما هو الصحيح على ما يأتي بيانه فلا وقع لهذا الاستدلال بوجه ، إذ الإمام (عليه السّلام) إنما أرجع إليهم السائل لعدم العلم بمخالفتهم معه (عليه السّلام) فيما يفتون به ، ولا يحتمل أن يرجعه إليهم مع العلم بمخالفتهم مع الإمام (عليه السّلام) فالاستدلال بالأولوية ساقط .


   هذا تمام الكلام في الوجوه المستدل بها على حجية فتوى غير الأعلم وقد عرفت ضعفها ، ولا بدّ بعد ذلك من التكلم فيما استدل به على وجوب تقليد الأعلم ، فإن تمّ فهو وإلاّ فلا مناص من المراجعة إلى ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة .


 أدلة وجوب تقليد الأعلم


   وقد استدل على وجوب تقليد الأعلم بوجوه :


   الأوّل : أن مشروعية التقليد في الأحكام الشرعية إنما أثبتناها بالكتاب والسنة أو بدليل الانسداد أو السيرة كما مرّ ، وقد أشرنا أن المطلقات الواردة في الكتاب والأخبار غير شاملة للمتعارضين ، فإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجية بالمعارضة يتعيّن الرجوع إلى الأعلم وذلك للعلم بعدم وجوب الاحتياط . وأما دليل الانسداد فلا  يمكن أن يستنتج منه جواز تقليد غير الأعلم فإن النتيجة ليست كلّية ، وإنما يستنتج منه حجية فتوى عالم ما ، فإن العقل بعد المقدمات قد استقل أن الشارع نصب طريقاً للعامّي لا محالة ، وليس ذلك هو الاحتياط لأنه غير ميسور في حقه ، ولا أنه الظن لأنه لا ظن للمقلد أو لا أثر له، فيتعيّن أن يكون الطريق فتوى عالم ما ، والقدر المتيقن 


ــ[114]ــ


فتوى الأعلم فيحتاج حجية فتوى غير الأعلم إلى دليل .


   وأما السيرة العقلائية فهي غير جارية على الرجوع إلى غير الأعلم ، بل قد جرت على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة كما هو المشاهد في غير الأحكام من الحِرف والعلوم ، وحيث إن تلك السيرة لم يردع عنها في الشريعة المقدسة فنستكشف بذلك أنها ممضاة عند الشارع .


   ويستثنى من ذلك ما إذا كانت فتوى الأعلم على خلاف الاحتياط وكانت فتوى غير الأعلم موافقة له ، كما إذا أفتى الأعلم بالاباحة في مورد وأفتى غير الأعلم بالوجوب ، فإن العقلاء في مثل ذلك وإن كانوا يرجعون إلى غير الأعلم أحياناً إلاّ أنه لا لأن فتواه حجة عندهم ، بل لأنه عمل بالاحتياط فيأتون به برجاء درك الواقع . إذن لا يمكن إسناد ما أفتى به غير الأعلم إلى الله ، والاتيان به بقصد الأمر والوجوب . وهذا الوجه هو الّذي نعتمد عليه في الحكم بوجوب تقليد الأعلم في محل الكلام .


   الثاني : ما عن المحقق الثاني (قدّس سرّه) من دعوى الاجماع على عدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم .


   ويدفعه : أن ذلك من الاجماعات المنقولة وقد بيّنا في محلّه أن الاجماعات المنقولة لا اعتبار بها . على أن المسألة لا يحتمل أن تكون إجماعية كيف وقد ذهب جمع إلى جواز تقليد المفضول كما مرّ . بل لو سلّمنا أن المسألة إتفاقية أيضاً لا يمكننا الاعتماد عليه لاحتمال استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدل بها ومعه لا يكون الاجماع تعبدياً يستكشف به رأي المعصوم (عليه السّلام) .


   الثالث : الروايات :


   منها : مقبولة عمر بن حنظلة الّتي رواها المشايخ الثلاثة (قدّس سرّهم) قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السّلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما ، إلى أن قال : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم فقال : الحكم 


ــ[115]ــ


ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث» (1) حيث دلت على وجوب تقديم الأفقه على غيره .


   ويرد على الاستدلال بهذه الرواية وجوه :


   الأوّل : أن الرواية ضعيفة السند بعمر بن حنظلة ، إذ لم يرد في حقه توثيق ولا مدح ، وإن سميت روايته هذه بالمقبولة وكأنها مما تلقّته الأصحاب بالقبول وإن لم يثبت هذا أيضاً . نعم ، ورد في المواقيت عن يزيد بن خليفة أنه قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السّلام) إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبدالله (عليه السّلام) إذاً لا يكذب علينا» (2) فلو كانت هذه الرواية معتبرة لدلتنا على أن الرجل موثق غايته كيف وموثّقه الإمام (عليه السّلام) إلاّ أن تلك الرواية أيضاً ضعيفة فإن يزيد هذا كعمر لم تثبت وثاقته .


   الثاني : أن الرواية أجنبية عن المقام لأن ترجيحه (عليه السّلام) بالأفقهية وغيرها من الصفات الواردة في الرواية إنما هو في الحكمين ، ومن الظاهر أن المرافعات والخصومات لا مناص من فصلها ولا معنى فيهما للحكم بالتخيير لاستلزامه بقاء الترافع بحاله ، ومعه كيف يصح التعدي عن فصل الخصومات الّذي لا مناص عنه في موارد الترافع إلى أمثال المقام الّتي لا مانع فيها من الحكم بالتخيير ، فالرواية كما لا يتعدى عن موردها إلى الروايتين المتعارضتين ، كذلك لا يمكن التعدي عنه إلى الفتويين المتعارضتين لجواز كون المكلف مخيراً في الموردين .


   ويؤكّد ما ذكرناه أن الإمام (عليه السّلام) قد رجّح أحدهما بالأورعية والأصدقية أيضاً ، وهذا كما ترى لا يجري في المقام للقطع بأن الأصدقية أو الأورعية لا تكون مرجّحة في الروايتين أو الفتويين المتعارضتين ، إذ لا أثر للأصدقية في حجية الفتوى بوجه . نعم ، ذهب بعضهم إلى تقديم الأورع في المجتهدين المتساويين في الفضيلة ويأتي عليه الكلام في محله إن شاء الله (3) .


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) وسائل الشيعة 27 : 106 / أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1 .


(2) وسائل الشيعة 4 : 133 / أبواب المواقيت ب 5 ح 6 .


(3) راجع ص 140  .


ــ[116]ــ


   والمتحصل : أن الأفقهية وبقية الأوصاف الواردة في الرواية من مرجحات الحكمين فهي راجعة إلى القضاء وأجنبية عن باب الفتوى بالكلّية .


   الثالث : أن الأعلمية المبحوث عنها في المقام إنما هي الأعلمية المطلقة لبداهة أن الأعلمية النسبية والاضافية غير كافية في تعيّن الرجوع إليه ، فإن كون شخص أعلم من غيره مع وجود من هو أعلم من كليهما لا يترتب عليه أي أثر في المقام ، والأفقهية الّتي ذكرت مرجحة في الرواية إنما هي الأفقهية الاضافية لقوله (عليه السّلام) الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ، ومعناه أن كون أحد الحاكمين أفقه من غيره مرجح في باب القضاء ، إذ لا يعتبر في الحاكم الأعلمية المطلقة ، وأين هذا من الأعلمية فيما نحن فيه ، فالأعلمية المرجّحة في باب القضاء وتعارض الحاكمين غير الأعلمية المعتبرة في المقام .


   ومنها : ما عن علي (عليه السّلام) في عهده إلى مالك الأشتر : «إختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك» (1) .


   وهذا على فرض العمل به في مورده ، أجنبي عن اعتبار الأعلمية في محل الكلام لأنه إنما دلّ على اعتبار الأفضلية الاضافية في باب القضاء وأن القاضي يعتبر أن يكون أفضل بالإضافة إلى رعية الوالي المعيّن له ، ولا يعتبر فيه الأفضلية المطلقة . وهذا أيضاً يختص بباب القضاء ولا يأتي في باب الافتاء، لأن المعتبر فيه هو الأعلمية المطلقة على ما اتضح مما بيّناه في الجواب عن الاستدلال بالمقبولة المتقدمة .


   ومنها : ما رواه في البحار عن كتاب الاختصاص قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «من تعلّم علماً ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس إلى نفسه يقول : أنا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار ، إن الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها فمن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (2) .


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) نهج البلاغة 434 .


(2) البحار 2 : 110 .


ــ[117]ــ


   وهذه الرواية لو لم نناقش في دلالتها بأنها راجعة إلى دعوى الخلافة فإنها الرئاسة الّتي لا تصلح إلاّ لأهلها ، وإلاّ فالرئاسة المجردة عن دعوى الخلافة والإمامة لا يشترط فيها الأعلمية بوجه ، فهي من الأحاديث النبوية الواصلة إلينا مرسلة والمراسيل غير صالحة للاعتماد عليها أبداً .


   ومنها : ما رواه أيضاً في البحار عن الجواد (عليه السّلام) أنه قال مخاطباً عمه : «يا  عمّ إنه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الاُمة من هو أعلم منك»(1).


   وهذه الرواية وإن كانت تدل على اعتبار الأعلمية المطلقة في المفتي إلاّ أنها ضعيفة سنداً لارسالها . إذن لا يمكن الاستدلال بها بوجه ، فالاستدلال بالأخبار أيضاً ساقط .


   الرابع : أن فتوى الفقيه إنما اعتبرت للطريقية إلى الأحكام الواقعية ، وحيث إن فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غير الأعلم لسعة إحاطته واطلاعه على ما لا يطلع به غيره من المزايا والخصوصيات ، فلا مناص من الأخذ بها دون فتوى غير الأعلم .


   بل ذكر بعض مشايخنا المحققين : أن نسبة العالم إلى الأعلم نسبة الجاهل إلى العالم إذ المراد بالأعلمية ليس هو قوة العلم وشدته نظير بعض العوارض النفسية والخارجية ، فيقال : زيد أبيض من عمرو أو أنه أشجع أو أسخى من فلان ويريدون به شدة بياضه وقوة شجاعته بالإضافة إلى عمرو ، وهذا بخلاف المقام وذلك لأن علم الأعلم وغير الأعلم بالنسبة إلى الوظائف الظاهرية على حد سواء وليس ذلك أقوى في أحدهما من الآخر . نعم ، يتصوّر هذا في المعارف فيقال : إن معرفة زيد بالله أو يوم المعاد أشد وأقوى من معرفة عمرو مثلاً لوصول أحدهما مرتبة عين اليقين والآخر مرتبة علم اليقين ، وأما الأحكام الشرعية فلا يتصوّر فيها ذلك لأن علم كل منهما على حدّ سواء ، وليس العلم في أحدهما أشد وأقوى منه في الآخر بحيث لا يزول بتشكيك المشكك لقوة مبنى عرفانه .


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) البحار 50 : 100 .


ــ[118]ــ


   بل المراد بالأعلمية أن يكون أحد المجتهدين أقوى وأدق نظراً في تحصيل الحكم عن مداركه وأمتن استنباطاً لها عن مبادئ تحصيله بأن يكون أعرف بالقواعد والكبريات وكيفية تطبيقها على صغرياتها لحسن سليقته. إذن فالأعلم مطلع على جملة من المزايا والخصوصيات الدخيلة في عرفانه لكيفية تطبيق الكبريات على صغرياتها وفي حسن سليقته بخلاف غير الأعلم ، فنسبة الأعلم إلى غير الأعلم كنسبة العالم إلى الجاهل ، ولا مسوّغ لتقليد الجاهل بوجه (1) .


   ويرد على ذلك : أن المراد بالأقربية إن كان هو الأقربية الطبعية والاقتضائية بمعنى أن الأعلم من شأنه أن تكون فتواه أقرب إلى الواقع من فتوى غيره ، فالصغرى صحيحة والأمر كما ادعى إلاّ أنه لا كبرى تنطبق على تلك الصغرى، حيث إن الأقربية الطبعية لم تجعل ملاكاً للتقليد ولا لوجوبه .


   وإن اُريد بالأقربية ، الأقربية الفعلية بأن تكون الفتيا الصادرة عن الأعلم أقرب إلى الواقع بالفعل بالإضافة إلى فتوى غير الأعلم ، فالصغرى غير مسلمة ولا مثبت لدعوى الأقربية ، إذ لا يمكن أن يقال : إن فتيا الأعلم أقرب إلى الواقع مطلقاً ، كيف وقد يكون فتوى غير الأعلم موافقة للمشهور ولفتيا الأساطين والمحققين كشيخنا الأنصاري وصاحب الجواهر وغيرهما ممن هو أعلم من الحي بمراتب ، ومع كون فتوى الأعلم على خلاف المشهور كيف تكون أقرب إلى الواقع من فتوى غير الأعلم.


   هذا ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وبنينا على أن فتوى الأعلم أقرب من فتوى غيره ، إلاّ أ نّا نطالب الدليل على أن الأقربية مرجحة ، ولم يقم أي دليل على أن الملاك في التقليد ووجوبه هو الأقربية إلى الواقع ، إذ العناوين المأخوذة في لسان الأدلة كعنوان العالم والفقيه وغيرهما صادقة على كل من الأعلم وغير الأعلم وهما في ذلك سواء لا يختلفان وهذا يكفي في الحكم بجواز تقليدهما .


   وعلى الجملة أن الأقربية كما أنها ليست مرجحة في الروايتين المتعارضتين ومن هنا قد تعارض الصحيحة مع الموثقة ، ولا في البينتين المتنافيتين لوضوح أن إحداهما 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد (الاصفهاني) : 54 .


ــ[119]ــ


لا تتقدّم على الاُخرى بمجرّد كونها أقرب إلى الواقع كما إذا كانت أوثق من الاُخرى مع أن حجية الطرق والأمارات من باب الطريقية إلى الواقع ، فكذلك الحال في الفتويين المتعارضتين كما عرفت .


   وأما ما أفاده شيخنا المحقق (قدّس سرّه) من أن نسبة العالم إلى الأعلم نسبة الجاهل إلى العالم ، فهو وإن كان صحيحاً على ما أوضحناه آنفاً إلاّ أنه بالإضافة إلى المزايا والخصوصيات الدخيلة في حسن السليقة والاستدلال ، وأما بالإضافة إلى الاستنباط أصله وردّ الأصل إلى الفرع فهما على حدّ سواء ، كيف وكلاهما مجتهد ومن ثمّة لا يسوغ له الرجوع إلى الأعلم بل قد يخطئه، وجاز تقليده على تقدير فقد الأعلم . والمتحصل : أن العالم والأعلم بالإضافة إلى العناوين الواردة في أدلة التقليد ، متساويان ولا موجب لتقديم أحدهما على الآخر .


   فالصحيح في الحكم بوجوب تقليد الأعلم ، هو السيرة العقلائية الّتي استكشفنا إمضاءَها من عدم الردع عنها في الشريعة المقدسة .


    الشك في حجية فتوى غير الأعلم


   إذا أثبتنا حجية فتوى غير الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم في الفتوى أو أثبتنا عدم حجيتها فلا كلام ، وأما لو شككنا في حجيتها وعدمها فهل الأصل يقتضي التخيير بينهما أو أنه يقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه وهو فتوى الأعلم ؟ وهذا بعد الفراغ عن أن العامّي غير مكلف بالاحتياط لعدم قدرته عليه أو لاستلزامه سدّ باب التقليد بالكلّية ، فالكلام إنما هو بعد العلم بعدم وجوب الاحتياط على العامّي .


   فقد يقال : إن الأصل عند دوران الأمر بين الحجية التعيينية والتخييرية يقتضي التخيير ، فإن حاله حال دوران الأمر بينهما في الأحكام فكما أن الأمر لو دار بين كون صلاة الجمعة مثلاً واجبة تعيينية وبين أن تكون واجبة تخييرية بأن يكون المكلف مخيراً بين صلاتي الجمعة والظهر ، دفعنا احتمال التعين في الجمعة بالبراءة إذ الالزام بالجامع معلوم والشك في اعتبار الخصوصية الزائدة عليه أعني خصوصية الجمعة وحيث إنه تقييد وكلفة زائدة فيدفع وجوبها بالبراءة، فكذلك الحال في المقام فإن 


ــ[120]ــ


أصل الحجية الجامعة بين التعيينية والتخييرية معلوم وخصوصية إحداهما مشكوك فيها والبراءة تقتضي عدمها . إذن النتيجة أن الحجية تخييرية وللمكلف أن يرجع إلى فتوى الأعلم أو يرجع إلى فتوى غير الأعلم .


   والصحيح أن الأصل عند دوران الأمر بين الحجية التعيينية والحجية التخييرية يقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه ، ولا وجه لقياسه بما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في الأحكام لأنه مع الفارق ، وتوضيح ذلك : أن الحجية قد يراد بها تنجز الواقع فحسب كما إذا لم يكن الواقع منجّزاً على المكلف لو لا الحجة الواصلة إليه ، فإن المورد لولا تلك الحجة مورد لأصالة الاباحة أو الطهارة أو غيرهما ، ولم يتنجز الواقع على المكلف إلاّ بما قامت عنده من الحجة فلم يترتب عليها سوى تنجز الواقع فحسب .


   وقد يراد بها التعذير فقط كما إذا كان الواقع منجّزاً على المكلف مع قطع النظر عن قيام الحجة عنده ، إما بالعلم الاجمالي الكبير لأنه يعلم أن في الشريعة المقدسة أحكاماً إلزامية يجب الخروج عن عهدتها ، وإما بالعلم الاجمالي الصغير المتحقق في بعض الموارد كالعلم الاجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة ، فإن الواقع منجّز عليه قبل الحجة الواصلة إليه ، فلا يراد منها إلاّ التعذير على تقدير الخلاف .


    فهناك مقامان للكلام :


   المقام الأوّل : ما إذا كان الواقع غير منجز على المكلف ، لأن المورد تجري فيه الاُصول النافية للتكليف ، وإنما يتنجز بالحجة الواصلة إليه وقد دار الأمر فيه بين الحجية التعيينية والتخييرية ، والتحقيق أن الأصل يقتضي التخيير حينئذ وذلك لأن حال المقام حال الدوران بين التعيين والتخيير في الأحكام ، وقد ذكرنا في محلّه أنه مورد للتخيير وذلك للعلم بالالزام بالجامع بين الشيئين أو الأشياء والشك في مدخلية الخصوصية في الواجب وعدمها ، وهو على ما ذكرناه في محلّه من الشك في الاطلاق والاشتراط ومعه تجري البراءة عن التقييد لأنه كلفة زائدة وضيق ، وحيث إن التقييد بالخصوصية مشكوك فيه للمكلف فيدفع بالبراءة ، فإن العقاب على المجهول حينئذ عقاب بلا بيان . وفي المقام التكليف بالجامع بينهما أعني أحدهما لا بعينه معلوم لا شك


ــ[121]ــ


فيه ، وإنما الشك في أن خصوصية هذا أو ذاك هل لها مدخلية في متعلق الوجوب أو لا مدخلية لها ، ولا شبهة في أن اعتبار الخصوصية كلفة زائدة وموجب للضيق على المكلف فمقتضى أصالة البراءة أن الخصوصية غير معتبرة في متعلق الوجوب . وعلى الجملة أن دوران الأمر بين التعيين والتخيير من الشك في الاطلاق والتقييد بعينه . إذا عرفت هذا فنقول :


   إن الحجية في مفروض الكلام لما كانت بمعنى التنجيز فقط ، ودار أمرها بين التعيينية والتخييرية كان ما أدّت إليه إحدى الفتويين لا على التعيين منجّزاً على المكلف بحيث لو تركهما معاً إستحق العقاب عليه ، لأنه ترك للواجب المنجّز على الفرض وأما ما أدّت إليه إحداهما المعينة فلا علم بتنجّزه بحيث لو تركه المكلف يستحق العقاب عليه ولو مع الاتيان بما أدّت إليه فتوى الآخر ، فحيث إن المكلف يعلم بتنجز ما أدّت إليه إحدى الفتويين غير المعينة ويشك في تنجّز ما أدّت إليه إحداهما المعينة وهو تكليف زائد مشكوك فيه ، فمقتضى أصالة البراءة عدم توجه التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوك فيها فإن العقاب عليها عقاب بلا بيان . ومعه يتخيّر المكلف بين أن يأخذ بهذا أو بذاك ، ولا يمكنه ترك العمل على طبقهما معاً . وأما ترك العمل بهذا بخصوصه أو ذاك كذلك فهو مرخص فيه حسبما تقتضيه أصالة البراءة عن التقييد . فالأصل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية بمعنى المنجّز يقتضي التخيير كما هو الحال في التكاليف الشرعية .


   المقام الثاني : ما إذا كان الواقع منجّزاً على المكلف بالعلم الاجمالي الكبير أو العلم الاجمالي المتحقق في بعض الموارد ، ولم يترتب على حجية الحجة سوى التعذير على تقدير الخلاف ، ودار الأمر بين الحجية التعيينية والتخييرية والأصل حينئذ يقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه ، وذلك لأن الواقع منجّز على المكلف ولا مناص من أن يخرج عن عهدته ، ولا إشكال في أن العمل على طبق ما يحتمل تعينه في الحجية معذّر قطعاً لأنه إما حجة معينة أو أنه أحد فردي الحجة التخييرية . وأما العمل بما يحتمل أن يكون حجة تخييرية فلم يحرز كونه معذّراً ، إذ نحتمل أن لا تكون حجة أصلاً فلا يؤمن من العقاب بالاعتماد عليه ، والعقل قد استقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى 


ــ[122]ــ


العقاب وهذا هو الّذي يقال : الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها. وحيث إنّا بيّنا في أوائل الكتاب(1) أن الأحكام الواقعية متنجّزة على كل مكلف بالعلم الاجمالي الكبير للعلم بأن في الشريعة أحكاماً إلزامية وجوبية أو تحريمية ، فتكون حجية الحجج الّتي منها فتوى الفقيه معذّرة فحسب ، وقد عرفت أن دوران الأمر بين الحجة التعيينية والتخييرية بهذا المعنى مورد لقاعدة الاشتغال والأصل فيه يقتضي التعيين .


   ومن هنا يتّضح أن وجوب تقليد الأعلم على هذا التقدير إنما هو من باب الاحتياط ، لا أنه مستند إلى الأدلّة الاجتهادية فإن مفروضنا أن الأدلة لم يستفد منها وجوب تقليد الأعلم وعدمه وانتهت النوبة إلى الشك ، وإنما أخذنا بفتوى الأعلم لأن العمل على طبقها معذّر على كل حال فهو أخذ إحتياطي تحصيلاً للقطع بالفراغ لا أن فتواه حجة واقعية ، هذا .


   وربما يقال : الاستصحاب قد يقتضي جواز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم فيكون الاستصحاب هو المعذّر على تقدير المخالفة ، وذلك كما في المجتهدين المتساويين في الفضيلة فإن المكلف مخيّر بينهما، فلو قلّد أحدهما تخييراً ثمّ تجدّدت الأعلمية للآخر فإنه إذا شكّ في جواز تقليد غير الأعلم فمقتضى الاستصحاب هو الجواز وبقاء فتوى غير الأعلم على حجيتها ، وبذلك نلتزم بجواز تقليده مطلقاً لأنه لو ثبت جواز تقليد غير الأعلم وحجية فتواه في مورد ثبتت في بقية الموارد لعدم القول بالفصل ، إذ لا يحتمل أن تكون فتوى غير الأعلم حجة في بعض الموارد وغير حجة في بعضها حيث إنها لو كانت قابلة للحجية فهي كذلك في جميع الموارد ، ولو لم تكن كذلك فليست بحجة في الجميع .


   والجواب عن ذلك بوجوه :


   أما أوّلاً : فلأن استصحاب الحجية لفتوى غير الأعلم أو جواز تقليده من الاستصحابات الجارية في الأحكام ، وقد بيّنا غير مرة أن الشبهات الحكمية والأحكام الكلّية الإلهية ليست مورداً للاستصحاب .


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) راجع ص 6  .


ــ[123]ــ


   وأما ثانياً : فلأن الاستصحاب على تقدير جريانه في الشبهات الحكمية ليست له حالة سابقة في المقام فإن التخيير بين المجتهدين المتساويين لم يثبت بدليل ، بل مقتضى القاعدة في المتعارضين هو التساقط على ما مرّ غير مرة . فالحجية التخييرية غير ثابتة من الابتداء .


   وأما ثالثاً : فلأنا لو بنينا على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وعلى ثبوت التخيير في المجتهدين المتساويين أيضاً ، لم يمكننا استصحاب التخيير بوجه وذلك لأنه من إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وسرّه أن موضوع الحكم بالتخيير إنما هو تساوي المجتهدين في الفضيلة ، ومع تجدد الأعلمية لأحدهما لا  موضوع للتخيير لنستصحبه ، لأن التخيير لم يثبت لفتوى المجتهدين في ذاتها وإنما ثبت لفتواهما بما أنهما متساويان ، ومع التبدل وزوال موضوعه لا معنى لاستصحاب التخيير بوجه .


   وأما رابعاً : فلأن استصحاب التخيير ـ مع الغض عن جميع المناقشات المتقدمة ـ معارض باستصحاب وجوب تقليد الأعلم تعييناً في بعض الموارد ، كما إذا فرضنا شخصين أحدهما متمكن من الاستنباط ومجتهد في الأحكام دون الآخر فقلّد العامّي المجتهد منهما لوجوبه عليه تعييناً ثمّ بعد ذلك تجدد للآخر الاجتهاد ، إلاّ أن الأول أعلم منه فإنه إذا شكّ حينئذ في جواز الرجوع إلى من تجدد له الاجتهاد أو تعيّن البقاء على تقليد الأول لأعلميته ، كان مقتضى الاستصحاب تعيّن البقاء على فتوى الأعلم لا  محالة لأنه الحالة السابقة على الفرض، فإذا وجب تقليد الأعلم في مورد واحد وجب في جميع الموارد لعدم القول بالفصل ، فالاستصحابان متعارضان ومعه لا يمكن الاعتماد على شيء من الاستصحابين ، ومقتضى قاعدة الاشتغال تعيّن تقليد الأعلم وقتئذ .


   وأما خامساً : فلأن استصحاب الحجية في بعض الموارد غير صالح لأن تثبت به حجية فتوى غير الأعلم مطلقاً ، والوجه في ذلك أن المثبت لحجية فتوى غير الأعلم في بعض الموارد إنما يمكن أن يثبت به حجيتها مطلقاً وفي جميع الموارد ، فيما إذا كان من الأدلة الاجتهادية كالخبر الواحد مثلاً للملازمة الواقعية بين كونها حجة في بعض 


ــ[124]ــ


الموارد وكونها حجة مطلقاً المستكشفة بعدم القول بالفصل ، فإن الأدلة الاجتهادية كما أنها معتبرة في مداليلها المطابقية كذلك تعتبر في مداليلها الالتزامية على ما بيّناه في محلّه . وأما إذا كان المثبت لحجيتها هو الأصل العملي كالاستصحاب ، فلا يترتب عليه سوى حجية فتوى غير الأعلم في مورد جريانه فحسب ، وذلك لتقوّمه باليقين السابق والشك اللاّحق ، ولا معنى للتمسك به فيما ليس هناك يقين سابق وشك لاحق . أللّهمّ إلاّ أن نقول بالأصل المثبت فإنه باستصحاب حجية فتوى غير الأعلم في بعض الموارد يثبت حجيتها مطلقاً للملازمة الثابتة بينهما بعدم القول بالفصل .


   وقد يفصّل في المقام بين ما إذا كانت الأمارات الشرعية الّتي منها فتوى الفقيه حجة من باب الكاشفية والطريقية ، فيلتزم بالأخذ بما يحتمل تعيّنه عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير كما قررنا تقريبه ، وبين ما إذا قلنا باعتبارها من باب السببية والموضوعية فيقال إن القاعدة تقتضي التخيير وقتئذ ، وذلك لأن الحجية الثابتة لفتوى غير الأعلم كالحجية الثابتة لفتوى الأعلم بناء على السببية وإن كانت مشتملة على المصلحة والملاك ، إذ الحجية حسبما يستفاد من الآيات والأخبار مترتبة على فتوى الفقيه وهو ينطبق على كلا المجتهدين ، إلاّ أن الحجية لفتوى غير الأعلم ليست بفعلية بالوجدان ، فإن فتوى الأعلم مانعة عن الحجية الفعلية لغيرها .


   وسرّه أن الحجية الفعلية في كلتا الفتويين أمر غير معقول ، ولا نحتمل أن تكون الأعلمية مانعة عن الفعلية في فتوى الأعلم . إذن يتعيّن أن تكون الأعلمية مانعة عن الفعلية في فتوى غير الأعلم ، وعلى الجملة أن حجية فتوى غير الأعلم ليست بفعلية بالوجدان وأما الحجية بالإضافة إلى فتوى الأعلم فيحتمل أن تكون فتوى غير الأعلم مانعة عن فعليتها كما يحتمل فعليتها . إذن تكون فعلية الحجية في فتوى الأعلم مشكوكة ومقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان عدم وجوب اتباعها ، والنتيجة أن الحجية بالإضافة إلى كلتا الفتويين ليست بفعلية وغاية الأمر أن عدم الفعلية في إحداهما بالوجدان وفي الاُخرى بالأصل فلا يجب اتباع هذه ولا تلك . وحيث إن العقل مستقل بعدم جواز ترك العمل على كلتيهما لأن المتعذر إنما هو استيفاء كلتا المصلحتين ، وأما استيفاء إحداهما فهو ميسور للمكلف فلا يرخّص العقل في تركهما 


ــ[125]ــ


معاً لأنه تفويت اختياري بلا سبب ، فلا مناص من اتباع إحدى الفتويين تخييراً .


   والكلام في الجواب عن ذلك يقع في جهات :


   الاُولى : أن السببية هل يمكن الالتزام بها في حجية الطرق والأمارات أو أنها باطلة بأقسامها ؟ وقد قرّرنا في محلّه (1) أن السببية بجميع أقسامها حتى السببية المنسوبة إلى بعض العدلية أعني بها الالتزام بالمصلحة في السلوك ، باطلة ولا نطيل الكلام باعادته .


   الثانية : أن القاعدة في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير على القول بالسببية ، هل تقتضي التساقط أو أنها تقتضي التخيير ؟ وقد قدّمنا الكلام في ذلك أيضاً في محلّه وقلنا إن القاعدة تقتضي التساقط في المتعارضين حتى على القول بالسببية وحيث إن حجية فتوى الأعلم وغير الأعلم من باب التعارض ، لعدم إمكان جعل الحجية لكلتا الفتويين لاستلزامه الجمع بين الضدين أو النقيضين ، فدليل الحجية في كل منهما ينفي الحجية عن الاُخرى بالالتزام ، فهما متعارضان ولا مناص من الحكم بتساقطهما .


   وليس المقام من باب التزاحم وعدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً ، بل هما متنافيان بحسب الجعل فإذا سقطت الفتويان عن الحجية لم تبق هناك أية مصلحة حتى يستقل العقل بلزوم استيفاء إحدى المصلحتين ووجوب اتباع إحدى الفتويين تخييراً ومن الظاهر أن الأمر بالاتباع إنما هو فيما ثبتت حجيته من الطرق ولا يمكن التفوّه بأن المصلحة قائمة بذواتها وإن لم تكن حجة شرعاً ، لأنه أي مصلحة في اتباع فتوى من لم يحكم بحجيتها لكفره أو فسقه أو لغيرهما من الجهات .


   الثالثة : أ نّا لو بنينا على أن المقام من صغريات باب التزاحم ، فهل تقتضي القاعدة التخيير في المتزاحمين أو أنها تقتضي الأخذ بما يحتمل أهميته ، وحيث إن المصلحة القائمة بالعمل على فتوى الأعلم تحتمل أهميتها فيتعيّن الرجوع إليه عند دوران الأمر بين تقليده وتقليد غير الأعلم ؟


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) مصباح الاُصول 2 : 95 .


ــ[126]ــ


   ذكرنا في محلّه (1) أن المتزاحمين إذا علمنا أهمية أحدهما لم يكن أي مسوّغ لرفع اليد عن الآخر المهم بالكلّية ، بل اللاّزم أن يرفع اليد عن إطلاقه فحسب ، فإن الضرورات تتقدر بقدرها ، والتنافي بينهما يرتفع بتقييد إطلاق المهم بما إذا ترك الاتيان بالأهم فلا مقتضي لرفع اليد عن المهم رأساً ، ومن هنا ذكرنا أن الترتب أمر ممكن وأنه على طبق القاعدة ، إذ لا منافاة بين الأمر بالأهم على نحو الاطلاق وبين الأمر بالمهم على تقدير ترك الأهم ، هذا إذا علمنا أهمية أحدهما معيناً .


   وأما إذا كانا متساويين فلا مناص من رفع اليد عن الاطلاق في كليهما وتقييده بما إذا لم يأت بالآخر ، إذ بذلك يرتفع التنافي بينهما وهو الترتب من الجانبين وتكون النتيجة أن المكلف مخيّر بينهما .


   وأما إذا احتملنا الأهمية في أحدهما المعيّن دون الآخر فاطلاق ما لا يحتمل أهميته مقيّد لا محالة . وأما إطلاق ما نحتمل أهميته فلا علم لنا بتقييده ، لأنه على تقدير كونه أهم يبقى إطلاقه بحاله كما أنه يقيد إذا كان مساوياً مع الآخر ، فإذا شككنا في ذلك فلا مانع من التمسك باطلاقه لعدم العلم بورود التقييد عليه ، هذا كلّه في كبرى المسألة .


   وأما تطبيقها على محل الكلام فلا شبهة في أن الأهمية غير محرزة في فتوى الأعلم وإلاّ لتعيّن الرجوع إليه ، إذ الكلام فيما إذا لم نعلم بذلك وشككنا في تعيّنه إلاّ أن احتمال الأهمية موجود بالوجدان وهذا بخلاف فتوى غير الأعلم إذ لا يحتمل فيها الأهمية بوجه . إذن لا مانع من التمسك باطلاق الأدلة المتقدمة القائمة على حجية فتوى الفقيه لعدم العلم بتقييدها بالإضافة إلى فتوى الأعلم ، كما علمنا بتقييدها بالإضافة إلى فتوى غير الأعلم ، ومع وجود الدليل الاجتهادي والاطلاق لا تصل النوبة إلى الأصل العملي حتى يقال : إن احتمال فعلية الأمر باتباع فتوى الأعلم مندفع بالبراءة لقبح العقاب من دون بيان .


   مضافاً إلى أن البراءة غير جارية في نفسها ، وذلك لأن العقل كما أنه يستقل بقبح مخالفة التكليف وعصيانه كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك ، وقد فرضنا أن اتباع كل 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) محاضرات في اُصول الفقه 3 : 120 .


ــ[127]ــ


من الفتويين يشتمل على المصلحة الملزمة ، إلاّ أن المكلف لو عمل بفتوى الأعلم فهو معذور في تركه التصدي لاستيفاء المصلحة القائمة بفتوى غير الأعلم ، وذلك لاستناده إلى العجز ، فإن المصلحة في اتباع فتوى الأعلم إما أنها مساوية للمصلحة في اتباع فتوى غير الأعلم أو أنها راجحة عليها .


   وأما لو عكس ذلك واتبع فتوى غير الأعلم ، فلا معذّر له عن عدم اتباعه لفتوى الأعلم لأن المصلحة في كلتا الفتويين وإن كان يحتمل تساويها فلا يكون اتباعه لأحدهما مفوّتاً لشيء ، إلاّ أن من المحتمل أن تكون مصلحة الاتباع لفتوى الأعلم أزيد من المصلحة القائمة باتباع فتوى غيره ، فيكون اختياره لغير الأعلم مفوّتاً للمصلحة الزائدة من غير عجز أو معذّر آخر لدى العقل وهو قبيح ، فحيث إنه يحتمل العقاب في اتباعه لفتوى غير الأعلم فالعقل مستقل بلزوم دفعه ، وحينئذ يتعيّن العمل على طبق فتوى الأعلم كما ذكرناه ، فالمقام ليس من موارد التمسك بالبراءة ومن هنا قلنا إن احتمال العجز عن امتثال أي تكليف غير مسوّغ لتركه وسرّه ما ذكرناه من استقلال العقل بلزوم تحصيل الملاكات الملزمة على كل حال ، ومع الشك في القدرة يحتمل العقاب لاحتمال أنه قادر على الامتثال واقعاً وأنه مكلف بالتحصيل ومعه لا بدّ له من أن يتصدى للامتثال ليقطع بتمكنه أو عجزه .


   وعلى الجملة لا مجال للبراءة في تلك المقامات لأن فيها احتمال العقاب والعقل مستقل بلزوم دفعه ، فلا يكتفى بالشك في القدرة وعدمها .


   فتلخص : أن تقليد الأعلم عند العلم بمخالفته لغير الأعلم في الفتوى هو المتعيّن هذا إذا كانت فتواه موافقة للاحتياط أو كان كل من الفتويين موافقاً للاحتياط من جهة ومخالفاً له من جهة .


   وأما إذا كانت فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط دون فتوى الأعلم ، فالعقل وإن كان يرخّص في اتباعها وقتئذ ، إلاّ أنه من جهة كونه محصّلاً للعلم بالامتثال لأنه معنى الاحتياط والاتيان بالعمل رجاءً ، لا أنه مستند إلى حجية فتوى غير الأعلم بحيث يجوز إسنادها إلى الله سبحانه ، وذلك لما قد عرفت من تعيّن الرجوع إلى فتوى الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى ، هذا كلّه في الصورة الثانية .


ــ[128]ــ


   وأما الصورة الثالثة : وهي ما إذا لم تحرز المخالفة بين فتوى الأعلم وفتوى غير الأعلم فهل يجوز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم أو يجب تقليد الأعلم حتى في هذه الصورة ، كما في صورة العلم بالمخالفة بينهما ؟ الكلام في هذه الصورة يقع من جهتين :


   الاُولى : فيما يقتضيه الأصل العملي في المسألة .


   الثانية : فيما تقتضيه الأدلة الاجتهادية .


   أما الجهة الاُولى : فلا ينبغي الاشكال في أن الأصل يقتضي تعيّن الرجوع إلى فتوى الأعلم لما مرّ من أن الأحكام الواقعية منجزة على المكلفين بالعلم الاجمالي بوجودها ، والعمل بفتوى المجتهد إنما هو للتعذير عن المخالفة للواقع ، والعمل بفتوى الأعلم معذّر قطعاً ومعذرية العمل بفتوى غير الأعلم مشكوك فيها . ومع دوران الأمر بين التعيين والتخيير الأصل يقتضي التعيين كما مرّ في الصورة الثانية ، إلاّ أن الأصل لا يعارض الدليل فلا مناص من ملاحظة الأدلة الاجتهادية لنرى أنها تدلّنا على جواز الرجوع إلى غير الأعلم أو لا تدل .


   أما الجهة الثانية : فيقع الكلام فيها أولاً فيما يستدل به على عدم جواز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم عند الشك في مخالفتها لفتوى الأعلم وتعيّن الرجوع إلى تقليد الأعلم ، وثانياً فيما استدل به على جواز تقليده .


   وقد استدلّوا على عدم الجواز في هذه الصورة بما استدلوا به على عدم جوازه في صورة العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى ، من أن الأدلة غير شاملة لفتوى غير الأعلم وكذا الاجماع ، والأقربية ، ومقبولة عمر بن حنظلة ، وعهد أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى مالك الأشتر وغيرها .


   ويرد على الجميع : أن شيئاً من ذلك لم تتم دلالته على وجوب تقليد الأعلم عند العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم ، فضلاً عن أن تدل على تعينه عند عدم العلم بالمخالفة بينهما . ونزيده : أن الاستدلال بعدم شمول الأدلة لفتوى غير الأعلم ، والأقربية والمقبولة لو تمّ فإنما يختص بصورة العلم بالمخالفة ، وأما مع الشك في المخالفة واحتمال موافقتهما فلا تعارض لئلاّ تشملها الأدلة كما لا معنى للأقربية وقتئذ ، وكذا المقبولة موردها فرض العلم بالمخالفة ، فالاستدلال بها على تعيّن الرجوع إلى الأعلم في صورة 


ــ[129]ــ


عدم العلم بالمخالفة مما لا وجه له ، هذا .


   وأما ما استدل به على جواز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم ، إذا لم يعلم المخالفة بينه وبين الأعلم فهو اُمور :


   الأوّل : إطلاقات الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه من الآية والأخبار المتقدمتين وقد خرجنا عنها في صورة العلم بالمخالفة وبقيت صورة العلم بالموافقة بينهما وكذا صورة الشك في المخالفة مشمولة لاطلاقها ، حيث دلت على جواز تقليد الفقيه من غير تقييده بما إذا كان أعلم .


   وقد يناقش في الاستدلال بالمطلقات بأن صورة العلم بالمخالفة قد خرجت عنها كما عرفت ، ومع الشك في الموافقة والمخالفة لا مجال للتمسك باطلاقها ، لأنه من التمسك بالعموم والاطلاق في الشبهات المصداقية وذلك لاحتمال مخالفتهما في الفتوى واقعاً .


   واُجيب عن ذلك بأن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية وإن لم يجز إذا كان المخصص لفظياً ، إلاّ أنه في المخصصات اللبية مما لا مانع عن التمسك به ، والأمر في المقام كذلك فإن صورة العلم بالمخالفة إنما خرجت عن المطلقات من جهة أن شمول أدلة الحجية للمتعارضين يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين ، ومع كون المخصص لبياً لا مانع من التمسك بالعموم .


   ويرد على هذا الجواب : ما قررناه في محلّه (1) من أنه لا فرق في عدم جواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية بين أن يكون المخصص لفظياً أو لبياً ، فإن التقييد والتخصيص يعنونان العام بعنوان ما لا محالة ، لاستحالة الاهمال في مقام الثبوت كاستحالة الاطلاق بعد العلم بالتقييد ، إذن يتعيّن أن يكون المطلق أو العام مقيداً بغير عنوان المخصص ، ولم يحرز أن العنوان المقيد صادق على المورد المشكوك فيه ، ومع عدم إحرازه لا مجال للتمسك بالاطلاق أو العموم .


   والصحيح في الجواب أن يقال : إن المناقشة غير واردة في نفسها وذلك لأن الشبهة وإن كانت مصداقية كما مرّ إلاّ أن هناك أصلاً موضوعياً يحرز به أن المورد المشتبه من 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 196 .


ــ[130]ــ


الأفراد الباقية تحت العموم ، وذلك لأن إحراز فردية الفرد قد يكون وجدانياً وقد يكون بالتعبّد، ومن هنا قلنا في محله إن المرأة المشكوكة قرشيتها ببركة أصالة عدم القرشية داخلة تحت الأدلة الدالة على أن المرأة تحيض إلى خمسين ، وفي المقام أيضاً نقول : إن المخالفة بين المجتهدين أمر حادث مسبوق بالعدم ، ومع الشك في تحققها يبنى على عدمها بمقتضى استصحاب العدم الأزلي ، لأن الأصل عدم تحقق المخالفة بينهما فببركة هذا الأصل يمكننا إحراز أن المشتبه من الأفراد الباقية تحت العموم . بل إحراز ذلك بالاستصحاب النعتي أيضاً ممكن في المقام لأن المجتهدين كانا في زمان ولم يكونا مخالفين في الفتوى ولو من جهة عدم بلوغهما مرتبة الاجتهاد ، ومقتضى الأصل أنهما الآن كما كانا سابقاً .


   وربما يورد على هذا الاستدلال بأن التمسك بالمطلقات يشترط فيها الفحص عن المقيد والمعارض والجامع مطلق ما ينافي إطلاق الدليل ولا يجوز التمسك بها من دون فحص ،وحيث إن فتوى الأعلم يحتمل أن تكون مخالفة لفتوى غير الأعلم فلا مناص من أن يفحص ليظهر أنهما متخالفتان حتى لا تشملهما المطلقات أو أنهما متوافقتان فعلى الأوّل لا يجوز الرجوع إلى غير الأعلم وعلى الثاني يجوز .


   ويدفعه : أن التمسك بالاطلاق وإن كان يعتبر فيه الفحص عن مقيداته ومعارضاته بل عن مطلق ما ينافي الدليل بحكومة ونحوها ، إلاّ أنه خاص بالشبهات الحكمية ، فلا يسوغ التمسك بعموم الدليل قبل الفحص عن مخصصه ، ولا يعتبر ذلك في الشبهات الموضوعية بوجه ، مثلاً إذا قامت بينة على ملكية دار لزيد لم يعتبر في حجيتها الفحص عمّا يعارضها من البينات ولو مع العلم بوجود عدول يحتمل شهادتهم بأن الدار ليست لزيد . ومقامنا هذا من هذا القبيل ، لأنه من الشبهات الموضوعية لأن مفروض الكلام العلم بعدم اعتبار فتوى غير الأعلم في فرض المخالفة وإنما نشك في أنهما متخالفان أو متوافقان فالشبهة موضوعية .


   والوجه في عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية هو أن ما يقتضي لزوم الفحص في الشبهات الحكمية عن المنافيات أحد أمرين على سبيل منع الخلو :


   أحدهما : أن ديدن الأئمة (عليهم السّلام) جرى على التدرج في بيان الأحكام 


ــ[131]ــ


الشرعية وما اعتبر فيها من القيود والشروط، ولم يبيّنوها بقيودها وخصوصياتها في مجلس واحد مراعاة للتقية ومحافظة على أنفسهم وتابعيهم عن القتل أو غيره من الأذى أو لغير ذلك من المصالح ، ومن هنا ترى أن العام يصدر من إمام والمخصص من إمام آخر ، أو أن حكماً يصدر من أحدهم (عليهم السّلام) فيصدر منه نفسه أو من إمام آخر خلافه ، ومع العلم بحال المتكلم وديدنه لا تجري في كلامه أصالة عدم القرينة قبل الفحص ، أو أنها لو جرت وانعقد لكلامه ظهور في نفسه لم تجر فيه أصالة حجية الظهور الّتي هي أصل عقلائي لاختصاصها بما إذا لم تجر عادة المتكلم على التدرج في بيان مراداته ومقاصده ، ومع عدم جريانها لا يعتمد على ظواهر كلامه لعدم حجيتها حينئذ .


   ثانيهما : العلم الاجمالي بأن العمومات والمطلقات الواردتين في الكتاب والسنّة قد ورد عليهما مقيدات ومخصصات كثيرة ، حتى ادعي أن الكتاب لا يوجد فيه عام لم يرد عليه تخصيص ، فلأجل ذلك وجب الفحص عن المنافيات حتى يخرج المورد عن الطرفية للعلم الاجمالي بالتخصيص والتقييد .


   وهذان الوجهان كما ترى لا يأتي شيء منهما في المقام : أما مسألة جريان عادة المتكلم على عدم بيان القيود والخصوصيات الدخيلة في حكمه في مجلس واحد فلأجل أنه لا موضوع لها في المقام ، حيث إن فتوى أحد المجتهدين ليست مبينة ومقيدة أو حاكمة على فتوى المجتهد الآخر بل فتوى كل منهما تصدر عن اجتهاده ونظره ولا ربط لاحداهما إلى الاُخرى بوجه .


   وأما العلم الاجمالي بالتقييد ، فلأنه ليس هناك أي علم إجمالي بالمخالفة في الفتوى بين المجتهدين لاحتمال موافقتهما بل قد يقطع بها كما في أكثر العوام لاعتقادهم أن الشريعة واحدة فلا اختلاف في أحكامها وفتاوى المجتهدين ، أو لو فرضنا أن الخواص قد علموا بينهما بالمخالفة ولو على سبيل الاجمال وفي بعض الموارد ، فليس لهم علم بالمخالفة في المسائل الّتي هي مورد الابتلاء ، والمراد بالمخالفة ما قدّمناه وهو أن يكون فتواهما متنافيتين مع كون فتوى غير الأعلم مخالفة للاحتياط وهي مما لا علم به ولو إجمالاً ومع عدم جريان شيء من الوجهين في المقام لا مقتضي لوجوب الفحص 


ــ[132]ــ


ويجب الفحص عنه (1) .


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بوجه ، فلا مانع من التمسك بالاطلاق من غير فحص عمّا يخالفه .


   الثاني : أن الأئمة (عليهم السّلام) قد أرجعوا عوام الشيعة إلى أصحابهم كزكريا بن آدم ، ويونس بن عبدالرحمان وأضرابهما وهم على تقدير كونهم متساوين في الفضيلة فلا أقل من أن بينهم الإمام (عليه السّلام) الّذي لا يحتمل فيه الخطأ ، فإذا جاز تقليد غير الأعلم مع وجود من لا يحتمل فيه الخطأ والاشتباه عند عدم العلم بالمخالفة بينهما جاز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم المحتمل فيه الخطأ والاشتباه ، لأنه لا سبيل له إلاّ إلى الأحكام الظاهرية المحتملة المخالفة للواقع بطريق أولى .


   الثالث : السيرة العقلائية الجارية على الرجوع إلى غير الأعلم في جميع الحِرف والصنايع عند عدم العلم بمخالفته لمن هو أعلم منه، لعدم التزامهم بالرجوع إلى الأعلم مطلقاً حتى يبقى غير الأعلم عاطلاً . وهذا أمر نشاهده في مراجعاتهم إلى الأطباء والمهندسين وغيرهم من أرباب العلوم والفنون ، وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة ، فنستكشف أنها ممضاة عند الشارع . نعم ، عند العلم بالمخالفة لا بدّ من الرجوع إلى الأعلم كما مرّ ، هذا كلّه في وجوب تقليد الأعلم .


   والمتحصل : أنه لا دليل على وجوب تقليده في هذه الصورة وإن كان ظاهر عبارة الماتن وجوب تقليد الأعلم مطلقاً ولو في صورة عدم العلم بالمخالفة .


    وجوب الفحص عن الأعلم


   (1) المكلف إذا ميّز الأعلم من المجتهدين فلا كلام ، وأما إذا لم يشخّصه بعينه ، فإن أراد أن يحتاط في عمله بالجمع بين الفتويين لم يجب عليه الفحص عن أعلمهما ، لعدم وجوب تعيّن المجتهد المقلّد حينئذ . وأما إذا لم يرد العمل بالاحتياط وجب عليه الفحص عنه لوجوب تقليد الأعلم على الفرض ، فإذا عمل بفتوى أحدهما من غير فحص عن أعلميته لم يقطع بفراغ ذمته ، لاحتمال أن يكون الأعلم غيره ومعه يحتمل العقاب لعدم إحراز أن ما عمل على طبقه معذّر واقعاً . إذن وجوب الفحص عن 


ــ[133]ــ


الأعلم وجوب إرشادي إلى عدم وقوع المكلف في معرض احتمال المخالفة والعقاب .


   ثمّ إنه إذا فحص عن الأعلم وظفر به فهو ، وأما إذا لم يميّز الأعلم من المجتهدين المتعددين فإن كان متمكناً من الاحتياط وجب، لما تقدم من أن الأحكام الواقعية متنجزة على المكلفين بالعلم الاجمالي بوجود أحكام الزامية في الشريعة المقدسة ولا طريق إلى امتثالها سوى العمل على طبق فتوى الأعلم ، والمفروض أنه مردد بينهما أو بينهم ، وبما أنه متمكن من الاحتياط يتعيّن عليه الاحتياط تحصيلاً للعلم بالموافقة لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب على ما هو الحال في موارد العلم الاجمالي بأجمعها . ولا أثر في هذه الصورة للظن بالأعلمية أو احتمالها في أحدهما أو أحدهم وذلك لما تقدم من أن أدلة الاعتبار قاصرة الشمول للمتعارضين ، ومعه لا دليل على حجية شيء من الفتويين ليكون الظن بها أو أحتمالها موجباً للأخذ به . بل اللاّزم وقتئذ هو الاحتياط حتى يقطع بفراغ ذمته عمّا اشتغلت به من الأحكام الالزامية المعلومة بالاجمال .


   وأما إذا لم يتمكن من الاحتياط إمّا لأن أحدهما أفتى بوجوب شيء والآخر بحرمته أو أنه أفتى بوجوب القصر والآخر بوجوب التمام ، إلاّ أن الوقت لم يسع للجمع بين الصلاتين فيتخيّر بينهما ، للعلم بوجوب تقليد الأعلم وهو مردد بين شخصين أو أشخاص من غير ترجيح لبعضهم على بعض ، وفي هذه الصورة إذا ظن بالأعلمية أو احتملها في أحدهما أو أحدهم تعيّن الأخذ بفتوى من ظن أو احتمل أعلميته .


   ولا يقاس هذه الصورة بالصورة المتقدمة أعني ما إذا تمكن من الاحتياط ، لأن التعارض هناك قد أوجب تساقط الفتويين عن الحجية فلم يجعل شيء منهما حجة على المكلف حتى يميز بالظن أو الاحتمال ، وهذا بخلاف المقام لأنه لا مناص للمكلف من أن يتبع إحدى الفتويين ، إذ لا يكلف بالاحتياط لفرض أنه متعذر في حقه ، ولا ترتفع عنه الأحكام المتنجزة لتمكنه من العمل بإحداهما . إذن لا بدّ له من اتباع إحدى الفتويين ، وحيث إنه يحتمل الأعلمية أو يظنها في أحدهما أو أحدهم فيدور أمره بين أن يكون كل من الفتويين حجة تخييرية في حقه ، وبين أن تكون فتوى من يظن 


ــ[134]ــ


أعلميته أو يحتملها حجة تعيينية ، وقد عرفت أن العقل مستقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعينه للعلم بأنه معذّر على كل حال ولا علم بمعذّرية الآخر ، هذا كلّه فيما إذا علم المكلف باختلافهما أو اختلافهم في الفتوى علماً تفصيلياً أو إجمالياً مع العلم باختلافهما في الفضيلة .


   وأما لو علم بالاختلاف ، ولم يعلم اختلافهما في الفضيلة فلا بدّ أيضاً من الفحص لعين ما مرّ في الصورة المتقدمة . وإذا لم يميّز الأعلم إما لعدم تمكنه من الفحص أو لأنه فحص ولم يظفر به فإن كان متمكناً من الاحتياط وجب كما عرفت ، وإلاّ تخير . أللّهم إلاّ أن يظن بالأعلمية أو احتملها في أحدهما المعيّن أو أحدهم ، لأن المتعيّن حينئذ هو الأخذ بفتوى من ظن أو احتمل أعلميته لما مرّ ولا نعيده .


   ولا يصح في هذه الصورة التمسك باستصحاب عدم أعلمية أحدهما عن الآخر نظراً إلى القطع بعدمها قبل أن يصل مرتبة الاجتهاد ، فإذا شككنا في انقلابه واتصافه بالأعلمية بعد الاجتهاد إستصحبنا عدمها وبه نثبت التخيير حتى مع الظن بالأعلمية أو احتمالها في أحدهما .


   وذلك لأن معنى هذا الاستصحاب أن من ظن أو احتمل أعلميته لم يحصّل قوة زائدة على قوة الآخر ، وهذا كما ترى معارض باستصحاب عدم تحصيل الآخر قوة تساوي قوة من ظنت أو احتملت أعلميته . على أنه لا يثبت به التساوي ، ومعه لا يمكن الحكم بالتخيير بينهما لأن موضوعه التساوي الغير المحرز في المقام .


   وأما لو علم باختلافهما في الفضيلة على نحو الاجمال ولم يعلم اختلافهما في الفتوى ، أو لم يعلم اختلافهما أصلاً لا في الفضيلة ولا في الفتوى فلا يجب الفحص فيهما عن الأعلم لعدم وجوب تقليده . بل يتخيّر المكلف بينهما ، فإن مقتضى إطلاق الأدلة حجية فتوى كل من الأعلم وغير الأعلم . ودعوى أن ذلك من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية قد قدّمنا الجواب عنها عند التكلم على وجوب تقليد الأعلم فراجع .


 


ــ[135]ــ


   [ 13 ] مسألة 13 : إذا كان هناك مجـتهدان متساويان في الفضـيلة يتخـيّر بينهما ((1))  (1) .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   التخيير عند تساوي المجتهدين


   (1) إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة أو احتملنا الأعلمية في كل منهما فالكلام قد يقع في صورة عدم العلم بالمخالفة بينهما فيما هو محل الابتلاء ، واُخرى في صورة العلم بمخالفتهما .


   أما الصورة الاُولى : كما هي الغالبة في العوام ، فلا ينبغي التأمل في أن المكلف يجوز له أن يقلّد هذا أو ذاك وأنه يتخيّر بينهما لأن غير الأعلم إذا جاز تقليده عند عدم العلم بالمخالفة بينه وبين الأعلم ، جاز أن يقلّد كلاً من المجتهدين المتساويين في تلك الصورة بطريق أولى ، ولا مانع من أن تشمل إطلاقات أدلة الحجية فتوى كل من المجتهدين المتساويين ونتيجته أن المكلف له أن يقلّد هذا أو ذاك .


   ومعنى الحجية على ما حققناه في محلّه (2) هو جعل ما ليس بعلم علماً تعبداً أعني جعل الطريقية إلى الواقع ، وأثرها تنجيز الواقع على تقدير المصادفة والتعذير عنه على تقدير الخطأ ، وحيث إن التخيير في المقام مستند إلى العلم الاجمالي وعلى تقدير انحلاله فهو مستند إلى الاحتمال ، فالواقع متنجز على المكلف من غير ناحية فتوى المجتهدين ومعه يكون أثر الحجية هنا هو المعذّرية عن مخالفة الواقع على تقدير مخالفة الفتوى للواقع . إذن لا مانع من اتصاف كل من فتوى المجتهدين المتساويين بالحجية بمعنى المعذرية لاطلاق أدلتها ، ونتيجته أن المكلف مخير بينهما وله أن يرجع إلى هذا أو ذاك . بل الأمر كذلك حتى إذا كان أحدهما أعلم ، إذ لا علم بالمخالفة بينهما ومجرّد احتمال المخالفة غير مانع عن الحجية فإن الأصل عدمها .


   ثمّ إن معنى جواز الرجوع إلى هذا أو إلى ذاك أن المكلف مخير في الأخذ وأن له أن 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) مع عدم العلم بالمخالفة ، وإلاّ فيأخذ بأحوط القولين ولو فيما كان أحدهما أورع .


(2) مصباح الاُصول 2 : 104 .


ــ[136]ــ


يأخذ بهذا أو بذاك ، لا أن الحجية تخييرية . بل الحجية بمعنى الطريقية إلى الواقع والمعذّرية عنه على تقدير الخلاف ثابتة لكلتا الفتويين، فهما حجتان تعيينيتان في نفسيهما وإن كان تنجز الحكم والمنع عن جريان البراءة مستنداً إلى أمر آخر كالعلم الاجمالي أو الاحتمال قبل الفحص ، هذا كلّه عند عدم العلم بالمخالفة بينهما .


   وأما الصورة الثانية : أعني ما إذا علمنا بالمخالفة بينهما فالمعروف فيها بين الأصحاب (قدّس سرّهم) هو التخيير وما يمكن أن يستدل به على ذلك وجوه :


   الأوّل : إطلاقات الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه ، فإنها كما تشمل فتوى هذا المجتهد كذلك تشمل فتوى المجتهد الآخر والنتيجة هو التخيير بينهما .


   وفساد هذا الوجه مستغن عن البيان ، لما مرّ غير مرة من أن إطلاق أدلة الاعتبار لا يمكن أن يشمل المتعارضين ، لأن شمولها لأحدهما من غير مرجح وشمولها لهما معاً يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين .


   الثاني : السيرة العقلائية بدعوى أنها جرت على التخيير في أمثال المقام ومن هنا لم يسمع توقفهم في العمل برأي واحد من أهل الخبرة والاطلاع إذا خالفه منهم آخر . بل السيرة المتشرعية أيضاً جارية على ذلك لأنهم يعتمدون على فتوى أحد المجتهدين المتساويين ولا يتوقفون في ذلك بوجه .


   ويدفعه : أنه إن اُريد بالسيرة جريان سيرة العقلاء على التخيير عند العلم بالمخالفة بين المجتهدين المتساويين في الفضيلة فهي دعوى باطلة ، فإنها خلاف ما هو المشاهد منهم خارجاً لأنهم لا يعتمدون على قول مثل الطبيب عند العلم بمخالفته لقول طبيب آخر عند المعالجة بل يحتاطون في أمثالها إن أمكنهم الاحتياط . وإن اُريد بالسيرة سيرة المتشرعة فهي على تقدير ثبوتها ـ ولم تثبت ـ لم يحرز كونها متصلة بزمان المعصومين (عليهم السّلام) إذ من أخبرنا أن مجتهدين كانا في الفضيلة على حد سواء وعملت المتشرعة على فتوى كليهما مخيراً ، ولم يردع الأئمة (عليهم السّلام) عن فعلهم ذلك لنستكشف بذلك أن السيرة ممضاة من قبلهم وهي الّتي وصلت إلينا يداً بيد ، بل من الجائز أن تكون السيرة على تقدير كونها كذلك ناشئة من فتوى المفتين من أصحابنا بالتخيير .


ــ[137]ــ


   الثالث : دعوى الاجماع على التخيير في المسألة .


   وفيه : أنه إجماع منقول بالخبر الواحد ، ولا يمكننا الاعتماد عليه ، على أن الاتفاق غير مسلّم في المسألة ، لأنها من المسائل المستحدثة ولم يتعرض لها الفقهاء في كلماتهم فكيف يمكن معه دعوى الاجماع على التخيير بين المجتهدين المتساويين . بل لو فرضنا العلم باتفاقهم أيضاً لم يمكننا الاعتماد عليه ، إذ لا يحتمل أن يكون اتفاقهم هذا إجماعاً تعبدياً يستكشف به قول المعصوم (عليه السّلام) وإنما هو أمر مستند إلى أحد الوجوه المذكورة في المسألة . فالمتحصّل إلى هنا أن التخيير بين المجتهدين المتساويين لم يقم عليه دليل . بل الحجية التخييرية أمر غير معقول في مقام الثبوت .


    الحجية التخييرية غير معقولة


   لأنها بمعنى جعل الحجية على هذا وذاك يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين لأن مرجعه إلى أن الشارع قد اعتبر المكلف عالماً بالحرمة وعالماً بعدمها ، أو عالماً بحرمة شيء وعالماً بوجوبه ، ومن هنا قلنا إن اطلاق أدلة الحجية غير شاملة لكلتا الفتويين لاستلزام حجيتهما معاً الجمع بين الضدين أو النقيضين .


   وأما الحجية التخييرية بمعنى جعل الحجية على الجامع بين الفتويين ، أعني عنوان أحدهما الّذي هو عنوان انتزاعي ، فهي أيضاً غير متصورة في المقام لأن التكليف بل الصفات الحقيقية كلها كالشوق والعلم وإن كان أمراً قابل التعلق للعناوين الانتزاعية كعنوان أحدهما الجامع بين فردين ، لأن الشوق يمكن أن يتعلق بأحد فعلين أو شيئين آخرين ، وكذلك العلم الاجمالي لأنه يتعلّق بأحدهما . بل قد التزمنا بذلك في الواجبات التخييرية ، وقلنا إن التكليف فيها إنما تعلّق بعنوان أحدهما وأن الفعل المأتي به في الخارج فرد للواجب لا أنه الواجب بنفسه ، إلاّ أن ذلك في الحجية أمر غير معقول ، لأنه لا معنى لاعتبار المكلف عالماً بالحرمة أو عالماً بعدمها ، واعتباره عالماً بوجوب شيء أو عالماً بحرمته ، لأنه معنى جعل الحجية على أحدهما .


   على أ نّا ذكرنا في محلّه أن كلاً من المتعارضين ينفي معارضه بالالتزام . إذن يكون معنى الافتاء بحرمة شيء أنه ليس بواجب كما أن معنى الافتاء بوجوبه أنه ليس بحرام فالفتويان المتعارضتان بين نفي وإثبات ، وجعل الحجية على الجامع بين النفي والاثبات 


ــ[138]ــ


أمر غير ممكن ، فالحجية التخييرية بهذا المعنى أيضاً غير معقولة .


   مضافاً إلى أ نّا لو سلمنا أنها أمر ممكن بحسب الثبوت ، فلا ينبغي التردد في عدم إمكانها بحسب الاثبات ، فإن الأدلة لا تساعدها بوجه والوجه فيه : أن أدلة الحجية إنما تدل على حجية فتوى كل فقيه متعينةً ومعناها أن إنذار هذا المنذر وفتوى ذلك الفقيه حجة معينة ولا دلالة لها بوجه على أن الحجة فتوى هذا أو فتوى ذاك على نحو التخيير .


   وأما جعل الحجية على كل منهما مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر ليكون كل منهما حجة تعيينية مشروطة بعدم الأخذ بالآخر ، فهو أيضاً كسابقه والوجه فيه : أن التكليف بكل واحد من الضدين مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر أي تركه ، وإن كان أمراً ممكناً في نفسه فإنه الترتب من الجانبين وقد بيّنا في محلّه أن الترتب من الجانب الواحد إذا أثبتنا امكانه فهو من الجانبين أيضاً ممكن فيكون كل من الضدين واجباً مشروطاً بترك الآخر ، ولا يلزمه طلب الجمع بين الضدين على ما حققناه في موضعه .


   كما لا يتوجه عليه أن لازمه الالتزام باستحقاق عقابين عند تركهما معاً لتحقق الشرط في وجوبهما . وهو من العقاب على ما لا يكون بالاختيار لعدم تمكن المكلف من الجمع بين الفعلين ، وذلك لما بيّناه هناك من أن العقابين ليسا مستندين إلى ترك الجمع بين الفعلين فلا يقال له لماذا لم تجمع بينهما حتى يرد أنه غير مقدور للمكلف ، بل مستند إلى الجمع في الترك فيقال له لماذا تركت هذا عند ترك ذاك وبالعكس ، ولا شبهة في أن كلاً من ترك الآخر وفعله عند ترك الأول مقدور ، إلاّ أن ذلك في الحجية أيضاً غير معقول وذلك لأن لازمه أن يتصف كل منهما بالحجية الفعلية إذا ترك المكلف الأخذ بهما معاً لحصول شرط الحجية في كليهما وهو عدم الأخذ بالآخر . وقد مرّ أن جعل الحجية على كل من الفتويين أمر غير معقول إذ لا معنى لاعتبار المكلف عالماً بالحرمة وعالماً بالوجوب . فالحجية التخييرية بهذا المعنى أيضاً غير معقولة .


    معنى آخر للحجية التخييرية


   بقى الكلام في الحجية التخييرية بمعنى آخر وهو جعل الحجية على كل من الفتويين مثلاً مشروطاً بالأخذ بها ـ لا مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر كما في سابقه ـ وهذا 


ــ[139]ــ


المعنى من الحجية التخييرية أمر معقول بحسب الثبوت والحجية في كل منهما تعيينية حينئذ مقيدة بالأخذ بها من دون أن يترتب عليها المحذور المتقدم ، لأنه إذا لم يأخذ بهذا ولا بذاك لم يتصف شيء منهما بالحجية لأنها مشروطة بالأخذ كما عرفت ، إلاّ أنه لا دليل عليه في مرحلة الاثبات لوضوح أن ما دلّ على حجية فتوى الفقيه غير مقيد بالأخذ بها ، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق في حجيتها بين الأخذ بها وعدمه . ومعه يكون شمول أدلة الحجية لاحداهما عند الأخذ بها معارضاً بشمولها للاُخرى حال عدم الأخذ بها ، وقد مرّ أن الأدلة غير شاملة للمتعارضين . نعم ، لو قام هناك دليل على الحجية مقيدة بالأخذ بها كما إذا كانت الأخبار الدالة على التوسعة عند التعارض وأن المكلف له أن يأخذ بأيهما شاء من باب التسليم ، معتبرة سنداً وعممنا الحكم لغير الروايتين من المتعارضين لم يكن مانع ثبوتي عن الالتزام بالحجية التخيرية بهذا المعنى ، إلاّ أنها لم يقم عليها دليل كما عرفت .


   بقى الكلام فيما ربّما يظهر من كلام بعضهم من الاجماع على أن العامّي ليس له العمل بالاحتياط ، بل دائماً يجب أن يستند في أعماله إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين . وهو أيضاً لا يمكن الاستدلال به على التخيير في محل الكلام وذلك لأنه من الاجماع المنقول بالخبر الواحد وهو مما لا اعتبار به . على أن الاجماع المدعى لا يقتضي الالتزام بالتخيير ولو مع الجزم بانعقاده لأن عدم العمل بالاحتياط كما أنه يجتمع مع الحجية التخييرية كذلك يجتمع مع الالتزام بسقوط الفتويين عن الحجية واختيار العمل على إحداهما من جهة تنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند عجز المكلف من الامتثال جزماً ، ولعلّ الشارع قد اكتفى بالعمل على طبق إحداهما المحتملة المطابقة للواقع .


   والمتحصل إلى هنا : أن الحجية التخييرية لا يمكن تتميمها بدليل. إذن يجب على العامّي الاحتياط للعلم بتنجز الأحكام الواقعية في حقه . ووجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي على طبق القاعدة ، هذا إن تمكن من الاحتياط .


   وأما لو لم يتمكن من العمل بالاحتياط إمّا لأن أحدهما أفتى بوجوب القصر مثلاً والآخر بوجوب التمام والوقت لا يسعهما ، وإما لأن أحدهما أفتى بوجوب شيء والآخر بحرمته ، وإما للاجماع على عدم جواز الاحتياط فلا مناص من الحكم


ــ[140]ــ


إلاّ إذا كان أحدهما أورع فيختار الأورع (1) .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بوجوب العمل على طبق إحدى الفتويين مخيراً ، وهو من التخيير العقلي في مقام الامتثال لتنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالي عند العجز عن الامتثال الجزمي .


    الأورعية ليست مرجحة


   (1) قد أسلفنا أن المجتهدين إذا كان أحدهما أعلم من الآخر ولم يعلم المخالفة بينهما في الفتوى جاز الرجوع إلى كل منهما ، لأنه لا مانع من شمول أدلة الحجية لهما حينئذ وكذا إذا علمنا بموافقتهما في الفتوى إلاّ أن تعيين المجتهد المقلّد عند العلم بتوافقهما لا يترتب عليه أي أثر، لعدم دلالة الدليل على لزوم الاستناد إلى أحدهما المعيّن وقتئذ.


   ولا شبهة في أن الأورعية ليست مرجحة في هاتين الصورتين سواء اُريد منها الأورعية في مقام العمل بأن يكون أحدهما مجتنباً عن المشتبهات دون الآخر ، أم اُريد بها الأورعية في الاستنباط إما بمعنى أن فحص أحدهما عن الدليل في استنباطاته أكثر من المقدار المعتبر في الفحص عنه ، وإما بمعنى عدم إفتاء أحدهما في المسائل الخلافية واحتياطه فيها دون الآخر . وذلك لأنه بعد حجية كلتا الفتويين وشمول الأدلة لفتوى الأورع وغير الأورع لاشتمالهما على شرائط الحجية ، لا يفرق بينهما بوجه وذلك لأن الدليل على حجية الفتوى إذا كان قيام السيرة على رجوع الجاهل إلى العالم ، فمن المعلوم أن العقلاء لا يقدّمون أحداً من أهل الخبرة على الآخر بمجرد كونه أورع لاشتمال كل منهما على ما هو الملاك المعتبر في رجوع الجاهل إلى العالم عندهم ، وهذه السيرة لم يردع عنها في الشريعة المقدسة . وإن كان الدليل هو الأدلة اللفظية من الآيات والروايات ، فلا كلام في أنها مطلقة ولا موجب لتقييدها بالأورعية أبداً . إذن لا أثر للأورعية في الصورتين .


   وأما ما ربما يتوهّم من أن مقبولة عمر بن حنظلة دلّت على لزوم الترجيح بالأورعية لقوله (عليه السّلام) : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ...» فمندفع :


ــ[141]ــ


   أما أولاً : فلأنها ضعيفة السند وغير قابلة للاستدلال بها كما مرّ .


   وأما ثانياً : فلأن مفروض الرواية هو العلم بالمخالفة بين الحاكمين وصورة التعارض بينهما ، وأين هذا ممّا نحن فيه ، أعني ما إذا لم يعلم المخالفة بين المجتهدين .


   وأما ثالثاً : فلأنها واردة في باب القضاء ولم يقم دليل على أن ما كان مرجحاً هناك فهو مرجح هنا أعني باب التقليد والفتوى ، والسّر فيه ظاهر ، حيث إن الخصومة لا بدّ من فصلها ، ولا سبيل إلى التوقف والاحتياط في القضاء والمرافعات ، وأما التقليد فهو أمر قابل للاحتياط فيه . إذن لا تكون الأورعية مرجحة كيف والأعلمية ليست مرجحة في تلك الصورة على ما قدّمناه في التكلم على وجوب تقليد الأعلم ، مع أن العلم هو الملاك في حجية فتوى العالم فما ظنك بالأورعية .


   ثمّ إن مما ذكرناه في الجواب عن الاستدلال بالمقبولة يظهر الجواب عن الاستدلال بغيرها من الأخبار الواردة في القضاء المشتملة على الترجيح بالأورعية (1) ولا نعيد .


   وأما إذا كانا متساويين في الفضيلة فهل تكون الأورعية مرجحة ؟ فيه خلاف وتفصيل الكلام في ذلك أن للمسألة صوراً ثلاثاً :


   الاُولى : ما إذا علمنا بموافقتهما في الفتوى . وفي هذه الصورة لا أثر لتعيين المجتهد المقلّد ، إذ لا دليل على لزوم الاستناد إلى أحدهما المعيّن عند الموافقة ومعه لا تكون الأورعية مرجحة بوجه .


   الثانية : ما إذا لم يعلم المخالفة بينهما وهل تكون الأورعية مرجحة حينئذ ؟ ذكر الماتن (قدّس سرّه) أن المجتهدين المتساويين إذا كان أحدهما أورع وجب اختيار الأورع منهما ، إلاّ أن الصحيح أن الأورعية ليست مرجحة في هذه الصورة أيضاً وقد ظهر وجهه مما قدمناه فيما إذا لم يعلم المخالفة بين الأعلم وغير الأعلم .


   الثالثة : ما إذا علمنا بالمخالفة بينهما . مقتضى إطلاق كلام الماتن أن الأورعية أيضاً مرجحة حينئذ ، والّذي يمكن أن يستدل به على أن الأورعية مرجحة في هذه الصورة أمران :


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) وسائل الشيعة 27 : 106 / أبواب صفات القاضي ب 5 ح 1 ، 20 .


ــ[142]ــ


   أحدهما : مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها من الأخبار المشتملة على الترجيح بالأورعية في باب القضاء ، بدعوى دلالتها على أن اللاّزم عند المعارضة هو الأخذ بما يقوله أورعهما .


   ثانيهما : الاجماع على أن العامّي ليس له العمل بالاحتياط بل دائماً لا بدّ أن يستند في أعماله إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين ، كما لعلّه ظاهر كلام بعضهم . وهذا يقتضي الترجيح بالأورعية على ما يأتي تقريبه .


   وكلا الوجهين غير قابل للمساعدة عليه :


   أما الاستدلال بالمقبولة ونحوها : فلأنها واردة في القضاء وقد ذكرت الأورعية مرجحة فيها للحكمين ، وأين هذا مما نحن فيه أعني ما إذا تعارضت فتوى الأورع لفتوى غير الأورع مع تساويهما في الفضيلة . وقد قدّمنا أن المرجح في باب الحكومة لا يلزم أن يكون مرجحاً في باب التقليد أيضاً لأنه قياس ولا نلتزم بالقياس .


   ويقرّب ما ذكرناه أن المقبولة ونحوها قد اشتملت على الترجيح بالأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية ، وظاهرها أن كلاً من تلك الصفات مرجح بالاستقلال ، لا أن المرجح مجموعها وإن كانت قد جمعت في البيان ، وعليه لو قلنا بشمولها للفتويين المتعارضتين فلا مناص من الحكم بتساقطهما فيما إذا كان أحد المجتهدين أفقه مثلاً والآخر أورع ، لاشتمال كل منهما على مرجح فيتساقطان . وهذا لا يلتزم به الخصم فإن الأعلم هو المتعين عند التعارض وإن كان غير الأعلم أورع . وهذ قرينة كاشفة عن أن المقبولة ونحوها غير شاملة للفتويين المتعارضتين ، هذا مضافاً إلى ما تقدم من أن المقبولة ضعيفة السند .


   وأما الاجماع المدعى : فإن قلنا إنه تام في نفسه فلا مناص من أن تكون الأورعية مرجحة في المقام ، لأن العامّي مكلف حينئذ بالرجوع إلى أحد المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، فإذا كان أحدهما أورع كما هو الفرض دار الأمر بين أن تكون فتوى كل منهما حجة تخييرية ، وأن تكون فتوى الأورع حجة تعيينية ، وقد قدّمنا سابقاً أن الأمر في الحجية إذا دار بين التعيين والتخيير وجب الأخذ بما يحتمل تعينه للقطع بحجيته والشك في حجية الآخر ، وقد مرّ غير مرة أن الشك في الحجية يساوق القطع 


ــ[143]ــ


بعدمها فالأورعية مرجحة لا محالة .


   وأما لو قلنا إن الاجماع المدعى غير تام ـ كما أن الأمر كذلك ـ لأن غاية ما هناك أن يقوم الاجماع على أن الشارع بالاضافة إلى جميع المكلفين لا يرضى بالعمل بالاحتياط ، لأنه يستلزم العسر والحرج أو اختلال النظام أو غير ذلك من الوجوه وأما العمل بالاحتياط في مورد واحد  ، أعني الأخذ بما هو الموافق للاحتياط من الفتويين المتعارضتين ، أو بالإضافة إلى شخص واحد فلا نحتمل قيام إجماع تعبدي على حرمته . وعليه لو أفتى أحدهما في مسألة بالوجوب ، وأفتى فيها الآخر بالجواز وجب تطبيق العمل على الفتوى بالوجوب ، كما أن المجتهد الثاني إذا أفتى في مسألة اُخرى بالوجوب وأفتى فيها المجتهد الأول بالجواز وجب تطبيق العمل على الفتوى بالوجوب ، وهذا في الحقيقة تقليد من كلا المجتهدين إذا كانت فتواه مطابقة للاحتياط . إذن فهذان الوجهان ساقطان .


   والّذي ينبغي أن يقال في المقام : إن الأورعية ليست مرجحة في الفتويين المتعارضتين ، وذلك أما مع التمكن من الاحتياط فلأن الأدلة كما تقدم لا تشمل شيئاً من المتعارضين ، فالفتويان ساقطتان عن الحجية ووظيفة العامّي حينئذ هو الاحتياط إذ مع عدم حجية المتعارضين لا معنى للترجيح بالأورعية لأنه لا حجة حتى ترجح إحداهما على الاُخرى ، وإنما وجب الاحتياط لأنه مما يستقل به العقل في أطراف العلم الاجمالي المنجز للواقع .


   وأما مع عدم التمكن من الاحتياط فقد يقال : إن المتعين هو العمل بفتوى الأورع من المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، وذلك لدوران الأمر في الحجية بين التعيين والتخيير فإن فتوى كل منهما إمّا حجة تخييرية أو أن فتوى الأورع حجة تعيينية ومقتضى القاعدة هو الأخذ بما يحتمل تعينه وهو فتوى الأورع في محل الكلام ، لأن العمل بها معذّر يقيناً ، وأما العمل بفتوى غير الأورع فلم يعلم كونه معذّراً على تقدير الخلاف لأجل الشك في حجيتها وهو يساوق القطع بعدم الحجية كما مرّ .


ــ[144]ــ


   وناقش في ذلك بعض مشايخنا المحققين (قدّس سرّهم) بما حاصله : أن القاعدة إنما تقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه فيما إذا استند احتمال التعيين إلى أقوائية الملاك في أحدهما عن الملاك في الآخر كما في الأعلمية، إذ الملاك في حجية الفتوى والنظر هو العلم والفقاهة وهما في الأعلم أقوى منهما في غير الأعلم ، والأصل يقتضي التعيين في مثله وأما إذا كان احتمال التعيّن مستنداً إلى أمر خارج عن الملاك ولم يستند إلى أقوائيته في أحدهما ، فلا يقتضي الأصل فيه التعيين لتساويهما فيما هو ملاك الحجية على الفرض والأمر في المقام كذلك إذ الملاك في حجية الفتوى هو العلم وهو أمر مشترك فيه بين الأورع وغيره ، وكون أحدهما آتياً بصلاة الليل مثلاً أو متورعاً في الشبهات لا ربط له بما هو الملاك في الحكم بحجية نظره وفتواه ، فمثله لا يمكن أن يكون مرجحاً في مقام الحجية أبداً (1) .


   وفيه : أن الأورعية قد يفرض القطع بعدم كونها ذات دخالة في حكم الشارع بحجية الفتوى بوجه ، وهي خارجة حينئذ عن محل الكلام فإن حالها على هذا حال الهاشمية والأسنّية وصباحة الوجه وغيرها ، فكما أن تلك الصفات ليست مرجحة لإحدى الفتويين من غير ريب ، كذلك الحال في الأورعية على الفرض .


   وقد يحتمل أن تكون مرجحة لإحداهما ، وهذا لا لأنها ذات دخالة فيما هو الملاك للحجية ، بل من جهة أن الشارع جعلها مرجحة لإحداهما كما جزم بها شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) فإن جزمه بها وإن لم يكن حجة على غيره ، إلاّ أنه يكفي في إثارة الاحتمال بالوجدان. إذن يحتمل أن تكون الأورعية مرجحة لإحداهما ومعه لا مناص من اختيار الأورع ، وذلك لأن الملاك فيما استقلّ به العقل من الأخذ بما يحتمل تعينه إنما هو حصول اليقين بفراغ الذمة عن التكليف المنجّز على تقدير العمل به ، والأمر في المقام كذلك لأن العمل على فتوى الأورع معذّر يقيناً ومعذّرية فتوى غير الأورع غير معلومة للشك في حجيتها ، وهو يساوق القطع بعدم الحجية كما مرّ ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون المرجح أمراً خارجياً كما في المقام وبين أن يكون أمراً


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد (الاصفهاني) : 64 .


(2) رسالة في الاجتهاد والتقليد : 83 .


ــ[145]ــ


   [ 14 ] مسألة 14 : إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز في تلك المسألة الأخذ من غير الأعلم وإن أمكن الاحتياط (1) .


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


راجعاً إلى أقوائية الملاك .


   إذن الصحيح في الجواب أن يقال : إن مقامنا هذا ليس من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وسرّه أن ما سردناه من أن المكلف يتخيّر بينهما لا يستند إلى أن فتواهما حجتان تخييريتان لما تقدم من أنهما ساقطتان عن الحجية بالتعارض ، فليست هناك حجة لتكون الأورعية مرجحة لإحداهما على الاُخرى ، بل يستند إلى ما بيّناه من أن العقل يتنزل إلى الامتثال الاحتمالي عند عدم تمكن المكلف من الامتثال الجزمي ، فالتخيير عقلي ومن الظاهر أن العمل على طبق فتوى الأورع والعمل بفتوى غير الأورع كلاهما امتثال إحتمالي فلا موجب لتقدم أحدهما على الآخر بوجه .


   (1) ما أسبقناه من وجوب تقليد الأعلم إنما هو فيما إذا كانت له فتوى في المسألة وكانت مخالفة لفتوى غير الأعلم ، وأما إذا لم تكن له فتوى بالفعل لاحتياجها إلى فحص زائد مثلاً كما قد يجاب بذلك في الاستفتاءات ويقال : إن المسألة تحتاج إلى مزيد تأمل ، بحيث لو سألناه عن الحكم في تلك المسالة أجاب بقوله : لا أدري ، فلا مانع من الرجوع إلى فتوى غير الأعلم ، لأنه أيضاً يصدق عليه الفقيه والعالم ، وإنما المانع عن حجيتها فتوى الأعلم بخلافها ، ومع فرض أن الأعلم ليست له فتوى في المسألة ، تشملها إطلاقات الأدلة من الكتاب والسنة ، كما أنه لا مانع من الرجوع إلى غير الأعلم حسب السيرة العقلائية ، لأنه من رجوع الجاهل إلى العالم .


   ثمّ لا يخفى أن الأعلم إذا لم يكن له فتوى بالحكم الواقعي في المسألة إلاّ أنه أفتى فيها بالحكم الظاهري ، كما إذا أفتى بوجوب الاحتياط لم يجز للمكلف أن يرجع في ذلك المورد إلى فتوى غير الأعلم لوجود فتوى الأعلم بالاحتياط ، إذ لا يشترط في وجوب تقليده أن تكون له فتوى بالحكم الواقعي ، بل إفتاؤه بالحكم الظاهري أيضاً يمنع عن حجية فتوى غير الأعلم .


   نعم ، حكم الأعلم بالاحتياط قد يستند إلى عدم علمه بالحكم الواقعي في المسألة كما في الشبهات قبل الفحص عن الدليل من دون أن يرى فتوى غير الأعلم خطأ ، بل


ــ[146]ــ


   [ 15 ] مسألة 15 : إذا قلّد مجتهداً كان يجوّز البقاء على تقليد الميت فمات ذلك المجتهد لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة ، بل يجب الرجوع إلى الحي الأعلم في جواز البقاء وعدمه (1) .


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كان بحيث يحتمل مطابقتها للواقع ، وأنه أيضاً لو فحص عن الدليل أفتى بما أفتى به غير الأعلم وإنما لم يفت في المسألة لعدم جزمه بالحكم الواقعي ، وكون الشبهة قبل الفحص وهو مورد للاحتياط . وفي مثله لا مانع من أن يرجع العامّي إلى فتوى غير الأعلم لأنه ليست للأعلم فتوى في المسألة مخالفة لفتوى غير الأعلم ولا أنه يخطئه في نظره .


   وما ذكرناه من عدم جواز الرجوع إلى فتوى غير الأعلم إنما هو فيما إذا حكم الأعلم بوجوب الاحتياط جزماً منه بانسداد الطرق الموصلة إلى الحكم الواقعي وتخطئة لفتوى غير الأعلم وعدم ايجابه للاحتياط كما في موارد العلم الاجمالي وتعارض الأدلة ، كما إذا سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه ، أو خرج إلى ما دون المسافة من محل إقامته أو غير ذلك من الموارد ، لتعارض الأدلة ووجود العلم الاجمالي بوجوب القصر أو التمام وهذه الموارد هي الّتي قلنا بعدم جواز الرجوع فيها إلى فتوى غير الأعلم ، والجامع ما إذا خطّأ الأعلم غير الأعلم في فتياه .


   ثمّ إنه إذا جاز الرجوع إلى غير الأعلم فلا مناص من أن يراعى الأعلم فالأعلم ولا يجوز أن يرجع إلى غير الأعلم مطلقاً ، بل إلى غير الأعلم بالإضافة إلى الأعلم الّذي قد قلّده مع اشتراط أن يكون أعلم بالإضافة إلى غيره من المجتهدين ، وذلك لعين الأدلة المتقدمة في وجوب تقليد الأعلم مطلقاً ويأتي فيه جميع ما ذكرناه هناك . وإذا فرضنا أن الأعلم الاضافي أيضاً لا فتوى له في المسألة رجع إلى غير الأعلم بالإضافة إليه مع اشتراط أن يكون أعلم بالإضافة إلى غيره من المجتهدين . وعلى الجملة لا بدّ من مراعاة الأعلم فالأعلم .


    مسألة البقاء يجب فيها تقليد الأعلم الحي


   (1) لسقوط فتوى الميت عن الحجية بموته ، ولا يجوز للمقلّد أن يعتمد على فتاواه بفتوى نفسه بجواز البقاء لأنه دور ظاهر ، بل اللاّزم أن يرجع إلى الحي الأعلم في 


ــ[147]ــ


جواز رجوعه إلى الميت وعدمه ، ثمّ إن الحي الأعلم إذا بنى على جواز البقاء أو على وجوبه ، جاز للمقلد أو وجب عليه العمل بآراء الميت فيما قد تعلّمه منه حال الحياة وكان متذكراً له بعد موته ، سواء أكان ذلك حكماً تكليفياً من وجوب شيء أو حرمته ونحوهما أم حكماً وضعياً كالصحة والحجية وأمثالهما من الأحكام الوضعية ، مثلاً إذا كان الميت بانياً على حجية الخبر الواحد الثقة جاز للمقلد أيضاً أن يبني على حجيته تبعاً لمن قلّده ، وهذا لعلّه مما لا كلام فيه .


   وإنما الكلام في أن الميت لو كان بانياً على جواز البقاء ، وأفتى الحي الأعلم أيضاً بجوازه فهل يجوز للمقلّد أن يبقى على تقليد الميت في مسألة جواز البقاء أو أن لها خصوصية بها تمتاز عن بقية المسائل والأحكام الوضعية ، ولا يجوز فيها البقاء على تقليد الميت ؟ وتفصيل الكلام في هذه المسألة : أن الحي الأعلم إما أن يفتي بجواز البقاء على تقليد الميت أو بوجوبه أو بحرمته ، كما أن الميت إما أنه كان يفتي بجواز البقاء أو بوجوبه أو بحرمته فهذه تسع صور :


   ولا ينبغي التوقف في أن الحي الأعلم بعدما بنى على عدم جواز البقاء على تقليد الميت ، لم يترتب أي أثر على فتوى الميت سواء أفتى بجواز البقاء أو بوجوبه أو بحرمته ، لسقوط فتواه عن الحجية بموته ، ومعه يجب على المقلّد أن يتبع فتوى الحي في تلك المسألة ولا مانع من أن يرجع إلى الميت إذا أفتى الحي بجوازه ، وليس له أن يعتمد على فتوى الميت بنفس فتواه بجواز البقاء لأنه دور ظاهر .


   وبذلك اتضح حكم الصور الثلاث أعني ما إذا كان الميت بانياً على جواز البقاء أو وجوبه أو حرمته ، وفرضنا أن الحي بنى على حرمته ، وعلى الجملة أن مع حكم الحي بحرمة البقاء لا يبقى مجال لملاحظة أن الميت يفتي بأي شيء ، وهذه المسألة نظير ما  يأتي من أن غير الأعلم إذا أفتى بحرمة العدول حتى إلى الأعلم وبنى الأعلم على الجواز ، لم يصغ إلى فتوى غير الأعلم بوجه فحكم تلك الصور ظاهر لا إشكال فيه .


   إذن يقع الكلام في الصور الباقية وهي ست ، ثنتان منها أعني ما إذا أفتى الميت بحرمة البقاء وبنى الحي على جوازه أو وجوبه ، يأتي عليهما الكلام بعد الفراغ عن التكلم في الصور الأربع الآتية إن شاء الله ، فالكلام متمحض فيما إذا أفتى كل من الميت والحي بجواز البقاء أو بوجوبه وهي أربع صور :


ــ[148]ــ


   فتوى الحي والميت بجواز البقاء


   الصورة الاُولى : ما إذا أفتى الحي الأعلم بجواز البقاء على تقليد الميت وذهب الميت أيضاً إلى جوازه فهل يجوز في هذه الصورة البقاء على تقليد الميت في مسألة جواز البقاء أو لا يجوز ؟


   فقد يقال بعدم جواز البقاء في مسألة جواز البقاء نظراً إلى اللغوية واستلزام ذلك أخذ الحكم في موضوع نفسه ، حيث إن جواز البقاء حكم فلا يصح أن يقال : يجوز البقاء على تقليد الميت في مسألة جواز البقاء .


   وهذه المسألة قد تفرض فيما إذا اتحد نظر الميت والحي فيما هو الموضوع للحكم بجواز البقاء بأن رأى كل منهما أن تعلّم فتاوى الميت أو الالتزام بالعمل بها حال حياته يكفي في جواز البقاء على تقليده ، أو أنهما اتفقا على أن التعلم أو الالتزام لا يجدي في جواز البقاء بل يعتبر فيه العمل بها حال حياته ، وفي هذه الصورة لا يجوز البقاء على تقليد الميت في مسألة جواز البقاء ، وذلك لأن فتوى الحي بجواز البقاء قد جعلت فتاوى الميت حجة معتبرة في جميع المسائل الفرعية ـ غير مسألة البقاء ـ إذن يكون جعل الحجية لفتوى الميت بجواز البقاء لاثبات حجية فتاواه في المسائل الفرعية لغواً ومن تحصيل الحاصل ، لوضوح أنه لا معنى للتنجيز بعد التنجيز ، ولا للمعذّرية بعد المعذّرية ، وقد فرضنا أن فتاواه صارت حجة شرعية أي معذّرة ومنجّزة بفتوى الحي بجواز البقاء ، فلا حاجة معه إلى جعل الحجية عليها مرة ثانية بتوسيط حجية فتوى الميت بجواز البقاء لفتوى الحي بجوازه ، فإنه من اللغو الظاهر وتحصيل الحاصل المحال .


   واُخرى تفرض المسألة فيما إذا اختلف نظر الميت والحي فيما هو الموضوع للحكم بجواز البقاء إلاّ أن دائرة موضوعه كانت بنظر الحي أوسع منها عند الميت ، كما إذا كان العمل بفتوى المجتهد حال حياته معتبراً عند الميت في جواز البقاء على تقليده ، وأما الحي فهو رأى أن الالتزام أو التعلم أيضاً يكفي في جوازه ، وفي هذه الصورة أيضاً لا مجال لتوسيط حجية فتوى الميت بجواز البقاء لاثبات حجية فتاواه في بقية المسائل ، وذلك لأن حجية فتاوى الميت فيما عمل به المقلّد حال حياته مستندة إلى فتوى الحي بجواز البقاء ، فإنها بذلك تتصف بالاعتبار ويكون جعل الحجية لفتوى 


ــ[149]ــ


الميت بجواز البقاء لأجل اثبات حجية فتاواه في بقية المسائل لغواً وتحصيلاً للحاصل المحال، لأنه من التنجيز بعد التنجيز والتعذير بعد التعذير .


   وثالثة تفرض المسألة فيما إذا اختلف نظر الميت والحي كما في الصورة المتقدمة إلاّ أن دائرة الموضوع للحكم بجواز البقاء كانت عند الميت أوسع منها لدى الحي ، كما إذا رأى الميت كفاية التعلم أو الالتزام في تلك المسألة والحي اعتبر فيها العمل، فهل في هذه الصورة يجوز البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء فيما إذا عمل بتلك المسألة حال حياته ـ كما إذا بقى على تقليد ميت آخر لفتواه بجواز البقاء ـ أو أن هذه الصورة كالصورتين المتقدمتين لا يجوز فيها البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء ؟


   قد يقال بعدم الجواز للزوم اللغوية ولاستحالة أخذ الحكم في موضوع نفسه فلا  يمكن أن يقال بجواز البقاء على تقليد الميت في مسألة جواز البقاء .


   والتحقيق أن في هذه الصورة لا مانع من البقاء في مسألة البقاء والسرّ فيه ما  قدّمناه من أن فتاوى الميت قد جعلت حجة شرعية بفتوى الحي بجواز البقاء فكأنه حيّ لم يمت ، وقد مرّ أن الحي إذا أفتى بجواز البقاء على تقليد الميت جاز للمقلّد أن يتبع آراء المجتهد الميت في جميع ما أفتى به من الأحكام التكليفية أو الوضعية، ومنها حجية فتوى الميت بجواز البقاء بالإضافة إلى من تعلّم فتاواه أو التزم بالعمل على طبقها وإن لم يعمل بها بوجه . نعم ، لا بدّ من أن يكون المكلف واجداً لشرطية العمل بفتوى الميت في تلك المسألة أعني مسألة جواز البقاء ، بأن يكون قد عمل بها حال حياة الميت كما إذا قلّده في تلك المسألة وبقي على تقليد مجتهد ثالث من الأموات في المسائل الّتي لم يعمل بها وإنما تعلّمها أو التزم بها ، وذلك لأنه لو لم يكن واجداً لهذا الاشتراط ، أي لم يكن قد عمل بتلك المسألة لم تكن فتوى الميت بجواز البقاء على من تعلّم المسألة أو التزم بها شاملة له وحجة في حقّه بفتوى الحي بجواز البقاء ، لفرض أنه اشترط فيه العمل والمقلّد لم يعمل بفتوى الميت في تلك المسألة ، وهذا بخلاف ما إذا عمل بها فإن فتوى الميت تتصف بالحجية في حقه ، وثمرتها جواز البقاء على تقليد الميت حتى فيما لم يعمل به من المسائل وإنما تعلمها أو التزم بالعمل بها . وهذا نظير ما ذكرناه في التكلّم على حجية الخبر من أ نّا إذا بنينا على حجية خبر العدل الواحد ، وعثرنا على خبر 


ــ[150]ــ


عدل دلّ على حجية مطلق خبر الثقة وإن لم يكن عادلاً التزمنا بحجية الخبر الصادر عن مطلق الثقة لدلالة الحجة على حجيته . والحال في المقام أيضاً كذلك فإن البقاء على تقليد الميت فيما لم يعمل به ، بل تعلّمه أو التزم به وإن لم يقم دليل على جوازه لدى الحي لما فرضناه من أنه إنما يرى جوازه فيما عمل به المقلّد حال حياة الميت ، إلاّ أنه قامت عنده الحجة على جوازه فيما لم يعمل به أيضاً ، وهي فتوى الميت بجواز البقاء فيما لم يعمل به ، فإن المقلّد قد عمل بتلك المسألة قبل موت الميت ، إذن كانت حجية فتوى الميت فيما لم يعمل به مستندة إلى فتوى الحي بجواز البقاء فيما عمل به من المسائل .


   ثمّ إن ما ذكرناه فيما إذا استند عدم فتوى الحي بجواز البقاء فيما لم يعمل به إلى الاحتياط والأخذ بالقدر المتيقن مما دلّ على جواز البقاء أمر ظاهر لا اشكال فيه لوضوح أن حجية الحجج لا مناص من أن تكون قطعية بأن تكون ثابتة بالأدلة المفيدة للعلم واليقين ولا حجية مع الشك ، وحيث إن الحي لم يتم عنده دليل على حجية فتوى الميت فيما لم يعمل به المقلّد ويشك في حجيتها مع التعلم أو الالتزام فلا  يمكنه الحكم باعتبارها إلاّ مع العمل على طبقها ، لا أنه حكم بحرمة البقاء مع التعلم أو الالتزام ليقال : إن الحي إذا حرّم البقاء على تقليد الميت عند عدم العمل بفتواه كيف يسوغ للمقلّد البقاء على تقليده مع التعلم أو الالتزام .


   وأما إذا استند في ذلك إلى الدليل على عدم جواز البقاء إلاّ مع العمل بفتوى الميت قبل موته ، فقد يقال بعدم جواز البقاء في هذه الصورة على تقليد الميت فيما تعلّمه أو التزم بها من المسائل وذلك لحرمة البقاء على تقليد الميت لدى الحي ، لأن مفروض الكلام أن الدليل قام عنده على المنع ، ومع أن الحي منع المقلّد عن البقاء لا معنى لجواز البقاء على تقليد الميت بفتواه .


   وفيه : أن البقاء على تقليد الميت وإن كان محرّماً لدى الحي إلاّ أنه إنما يمنع عن البقاء فيما لم يعمل به من المسائل بما أنه بقاء في طبعه ونفسه ، وأما البقاء على تقليد الميت فيما لم يعمل به لا بما أنه بقاء ، بل بتوسيط حجية فتوى الميت فلا حرمة له لدى الحي وذلك لأن المحرّم هو الّذي يصدق عليه البقاء في طبعه، وأما لا بما هو كذلك بل بعنوان ما قامت الحجة على جوازه أعني فتوى الميت به فمما لا حرمة له . وهذا كما إذا بنى الميت على وجوب السورة في الصلاة وبنى الحي على عدم وجوبها ، فإن الحي 


ــ[151]ــ


بتوسيط أن فتوى الميت حجة في نظره ، أيضاً يرى وجوب السورة ولكن لا في نفسها وطبعها بل بعنوان ثانوي وهو فتوى الميت بالوجوب أو قيام الحجة به . وكما إذا رأى الميت كفاية التوضؤ مع الجبيرة وبنى الحي على تعين التيمم وعدم كفاية الوضوء مع الجبائر ، فإن الوضوء وإن كان غير مجزئ عند الحي بالعنوان الأولي إلاّ أنه بعنوان أن الحجة قامت بصحته مجزئ لا محالة . ولهذا نظائر كثيرة يطول بذكرها الكلام ، بل هذا قد يقع بين مجتهدين معاصرين فيسأل أحدهما عن وجوب السورة عند معاصره ويجيب بأنه يرى عدم وجوبها وأما عنده فهي واجبة، فإنه حينئذ بعنوان أن المعاصر أفتى بعدم وجوب السورة يلتزم بعدم وجوبها فضلاً عن الميت والحي .


   والمتحصل : أنه لا مانع من القول بجواز البقاء على تقليد الميت في مسألة جواز البقاء ، ولا يرد عليه محذور اللغوية ولا أخذ الحكم في موضوع نفسه .


   أما اللغوية فلما تقدم من أن حجية فتوى الميت بفتوى الحي بجواز البقاء نتيجتها جواز البقاء على تقليده حتى فيما لم يعمل به من المسائل ، ومع ترتب مثل هذه الثمرة على حجية فتوى الميت لا معنى لدعوى اللغوية بوجه .


   وأما أخذ الحكم في موضوع نفسه فالوجه في عدم وروده أن ما ادعيناه في المقام هو أن فتوى الحي بجواز البقاء قد جعلت فتاوى الميت حجة شرعية بلا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والوضعية ، وأن أثر تلك الحجية جواز البقاء على تقليده حتى فيما لم يعمل به من المسائل . إذن هناك أحكام ثلاثة مترتبة على موضوعاتها الثلاثة :


   أحدها : وجوب السورة في الصلاة .


   ثانيها : حجية فتوى الميت بجواز البقاء .


   ثالثها : حجية فتوى الحي بجواز البقاء .


   وهذه الأحكام مترتبة في الثبوت ، فإنه بثبوت حجية فتوى الحي بجواز البقاء تثبت حجية فتوى الميت كما مرّ ، وإذا ثبتت حجية فتاواه فقد ثبت وجوب السورة في الصلاة أو غير ذلك من الأحكام ، ومعنى ذلك أ نّا أخذنا حجية فتوى الميت بالجواز في موضع الحكم بحجية فتوى الحي به، حيث قلنا يجوز البقاء على تقليد الميت في مسألة جواز البقاء .


ــ[152]ــ


   ودعوى أن ذلك من أخذ الحكم في موضوع نفسه مغالطة ظاهرة ومجرد لفظ لا معنى تحته ، فإن المستحيل إنما هو أن يؤخذ حكم في موضوع شخصه ، فإن مرجعه إلى كون الحكم مفروض التحقق حين جعله وإنشائه . وليس في المقام من ذلك عين ولا أثر ، فإن المتحقق فيما نحن فيه أن حجية فتوى الميت بجواز البقاء مترتبة على حجية فتوى الحي به كما أن ثبوت وجوب السورة في الصلاة أو غيره مترتب على حجية فتوى الميت بالجواز ومعه قد اُخذ حكم في موضوع حكم آخر ، فإن حجية فتوى الميت غير حجية فتوى الحي وإحداهما مأخوذة في موضوع الاُخرى كما لا يخفى هذا كلّه في الصورة الاُولى .


    فتوى الحي والميت بوجوب البقاء


   الصورة الثانية : وهي ما إذا أفتى كل من الميت والحي بوجوب البقاء على تقليد الميت ، وحكمها حكم الصورة المتقدمة ويأتي فيها التفصيل المتقدم هناك ، فإذا فرضنا أن الميت والحي متحدان فيما هو الموضوع للحكم بوجوب البقاء ، أو أنهما اختلفا في ذلك وكانت دائرة الموضوع عند الحي أوسع منها لدى الميت ، لم يجب البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء لاستلزام ذلك اللغوية وجعل التنجيز بعد التنجيز والتعذير بعد التعذير، وأما إذا اختلفا وكانت دائرة الموضوع عند الميت أوسع منها لدى الحي فلا مانع من البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء ولا يرد عليه محذور اللغوية أو أخذ الحكم في موضوع نفسه .


    فتوى الحي بوجوب البقاء والميت بجوازه


   الصورة الثالثة : وهي ما إذا أفتى الحي بوجوب البقاء وبنى الميت على جوازه فهل يجوز للعامّي أن يرجع إلى الحي في تلك المسألة ليجب عليه البقاء على تقليد الميت وحيث إن الميت يجوّز البقاء والعدول فيعدل إلى الحي بفتوى الميت بالجواز ؟


   فقد يقال بالمنع عنه نظراً إلى أن معنى حكم الحيّ بوجوب البقاء أن فتوى الميت حجة تعيينية وأن المقلّد ليس له أن يعدل إلى غيره ، كما أن معنى حكم الميت بجواز 


ــ[153]ــ


البقاء أن فتوى الميت حجة تخييرية وأن للمقلّد أن يبقى على تقليده أو يعدل إلى الحي ومن الظاهر أن الحجة التعيينية والتخييرية غير قابلتين للاجتماع ، ولا يمكن أن يقال إن فتوى الميت حجة تعيينية وتخييرية ، لأنه يشبه الجمع بين المتناقضين . إذن لا يعقل أن تشمل فتوى الحي بوجوب البقاء على تقليد الميت لفتوى الميت بجواز البقاء وجواز العدول عنه . بل تختص بسائر المسائل غير تلك المسألة من فتاواه فلا يجوز للعامّي العدول من البقاء على تقليد الميت إلى الحيّ ، هذا والصحيح أن المقلّد له أن يعدل إلى الحي بفتوى الميت بالجواز .


   ودعوى أن ذلك يستلزم الجمع بين الحجية التعيينية والتخييرية ، مندفعة بأنه إنما يلزم فيما إذا اتحد نظر الميت والحي فيما هو الموضوع للحكم في مسألة البقاء ، أو أنهما اختلفا في ذلك وكانت دائرة موضوعه عند الحي أوسع منها لدى الميت ، وأما إذا اختلفا في ذلك وكانت دائرة موضوع الحكم عند الميت أوسع منها لدى الحي ، كما إذا أفتى الميت بجواز البقاء مع تعلم الفتوى وإن لم يعمل بها ، وأفتى الحي بوجوب البقاء مع العمل فلا يلزم محذور الجمع بين الحجيتين، وذلك لأن فتوى الحي بوجوب البقاء قد جعلت فتاوى الميت متصفة بالحجية فيما عمل به المقلّد ، وقد فرضنا أنه عمل بفتوى الميت بالجواز في مسألة البقاء ، وإذا اتصفت فتوى الميت بالحجية في تلك المسألة جاز للمقلّد كل من العدول والبقاء فيما أفتى به المجتهد الميت حتى فيما لم يعمل به وتعلّم حكمه من المسائل .


   ومن الظاهر أنه ليس في المسائل الّتي لم يعمل بها المقلّد حال حياة الميت اجتماع الحجيتين ، لأن كون فتوى الميت حجة تعيينية إنما هو في المسائل الّتي عمل بها المقلّد دون ما لم يعمل به ، فليس فيها سوى فتوى الميت بجواز البقاء وهي حجة تخييرية فحسب فأين يلزم في تلك المسائل اجتماع الحجيتين .


   على أنه لا مانع من اجتماع الحجية التعيينية والتخييرية في مورد واحد ، فإن الحجية التعيينية إنما ثبتت لفتوى الميت ببركة فتوى الحي بوجوب البقاء بما هي فتوى الميت بمعنى أن الجهات الّتي ساقت الحي إلى الحكم بوجوب البقاء ـ ككون الميت أعلم أو حرمة العدول عنه نظراً إلى أن الموت كمال ، فلا يوجب سقوط فتواه عن الاعتبار على 


ــ[154]ــ


ما ترشدنا إليه السيرة وغيرها أو غيرهما من الجهات ـ إنما دلت على أن فتوى الميت بما هي كذلك حجة تعيينية ، ولا ينافي ذلك كونها حجة تخييرية بلحاظ أن الحجة قامت على جواز العدول وتوسيط فتوى الميت بالجواز .


   ونظيره ما إذا أفتى غير الأعلم بوجوب تقليد الأعلم والأعلم أفتى بجواز تقليد غير الأعلم ، فإن فتوى غير الأعلم في نفسها وبعنوان أنها فتواه وإن لم تكن بحجة حتى لو سألناه نفسه عن جواز تقليده لأجاب بعدم الجواز لوجوب تقليد الأعلم عنده ، إلاّ أنها بعنوان أن الحجة قامت على حجيتها والأعلم أفتى بجواز الرجوع إليه متصفة بالحجية من غير أن يكون بين الحكمين أي تهافت ، لأنهما بعنوانين مختلفين وهو من اجتماع عدم الحجية بالعنوان الأولي والحجية بالعنوان الثانوي . وما إذا ذهب الميت إلى أن خبر الثقة حجة في الموضوعات الخارجية كما أنه حجة في الأحكام الشرعية، وبنى الحي على عدم اعتباره في الموضوعات وأن الحجة فيها هي البينة، فإن خبر الثقة بما أنه كذلك لا يتصف بالحجية لدى الحي ، إلاّ أنه بعنوان أن الحجة قامت على حجيته وأن الميت أفتى باعتباره، حجة شرعية لا محالة لأن الحجة قامت على حجيته .


   والمتلخص : أنه لا مانع من اجتماع الحجية وعدم الحجية بعنوانين ، فإذا أمكن هذا في تلك الموارد أمكن في محل الكلام أيضاً . إذن لا مانع من أن تكون فتوى الحي بعنوانها الأولي غير متصفة بالحجية وتكون متصفة بالحجية التخييرية بعنوان أن الحجة قامت على حجيتها ، وكذلك الحال في فتوى الميت بأن تتصف بالحجية التعيينية والتخييرية في مورد واحد ، ومعه لا بأس أن يحكم بوجوب البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء لفتوى الحي بوجوبه على تقدير العمل أو التعلم مثلاً ، والمفروض أن المقلّد قد عمل بفتواه هذه أو تعلمها منه حال الحياة فتتصف فتوى الميت بالحجية حتى في مسألة البقاء ويجب عليه أن يبقى على تقليده، وحيث إنه أفتى بجواز البقاء والعدول إلى الحي فله أن يعدل إلى الحي كما مرّ .


   ودعوى أن المجعول في الواقع إما هو الحجية التعيينية أو التخييرية ، فلا يمكن القول بحجية فتوى الميت تعييناً ليترتب عليه الحجية التخييرية ، مما لا يصغى إليه وذلك : أما 


ــ[155]ــ


في المسائل الّتي لم يعمل بها المقلّد أو لم يتعلم حكمها فلوضوح أن الحي إنما يرى وجوب البقاء على تقليد الميت فيما عمل به المقلّد أو تعلّم حكمه دون ما لم يعمل به أو لم يتعلّم حكمه ، فلا مانع في تلك المسائل من الالتزام بجواز البقاء استناداً إلى فتوى الميت الثابتة حجيتها بفتوى الحي كما عرفت .


   وأما في المسائل الّتي عمل بها المقلّد أو تعلّم حكمها ، فلأن الحجية الواقعية بما أنها واقعية مما لا أثر له ، إذ الغرض من جعلها إنما هو تنجيز الواقع أو التعذير عنه ، وهذا لا يتحقق إلاّ مع الوصول ، وعليه فمنجز الواقع أو المعذّر عن مخالفته ليس إلاّ فتوى الحي الواصلة إلى المكلف على الفرض ، وبما أنه يرى وجوب البقاء على تقليد الميت وجب على المقلّد أن يرجع إلى فتاواه ، وحيث إنه أفتى بجواز العدول والبقاء فجاز للمكلف أن يعدل إلى الحي بفتوى الميت به ، وإذا عدل إلى الحي فإن كانت الحجية التخييرية هي المجعولة واقعاً فهو ، وأما لو كانت الحجية المجعولة هي التعيينية ، فهي غير واصلة إلى المكلف بل الواصل خلافها لقيام فتوى الميت بجواز البقاء . وفي ظرف عدم وصول الحجية التعيينية لا مانع من جعل الحجية التخييرية بأن تكون الحجة هو ما يختاره المكلف من الفتويين ، لما تقدم من أن الحجية التخييرية غير معقولة إلاّ أن يرجع إلى جعل الحجية على ما يختاره المكلف من الأمرين أو الاُمور .


    فتوى الحي بجواز البقاء والميت بوجوبه


   الصورة الرابعة : وهي ما إذا بنى الحي على جواز البقاء وأفتى الميت بوجوبه ، فهل يجوز للمقلّد أن يرجع إلى فتوى الميت في مسألة البقاء حتى يجب عليه البقاء على تقليد الميت في بقية المسائل الفرعية ، أو أن المقلّد لو رجع إلى تقليد الميت لم يجب عليه البقاء في بقية المسائل ؟


   الصحيح أن يقال : إن فتوى الحي بجواز البقاء على تقليد الميت وجواز العدول عنه إن كان بمعنى أن فتوى الميت حجة تخييرية وعدلها فتوى الحي ، والمكلف مخيّر بينهما بالمعنى المتقدم في التكلم على الحجية التخييرية بين المجتهدين المتساويين بأن يكون الاختيار في الأخذ بهذا أو بذاك بيد المكلف ، ويكون كل منهما حجة تعيينية بعد 


ــ[156]ــ


الأخذ به والتعبير عنها بالحجية التخييرية إنما هو بمناسبة أن الاختيار بيد المكلف وله أن يأخذ بهذا أو بذاك ، وإذا أخذ بأحدهما كانت حجة تعيينة في حقه ، فليس للمقلّد بعد أن أخذ بفتوى الميت في مسألة البقاء ـ لكونه قد عمل بها في حياته أو تعلّم حكمها ـ أن يعدل إلى الحي ، لأن فتوى الميت قد اتصفت بالحجية التعيينية بأخذها ومعها يجب البقاء في بقية المسائل أيضاً .


   وإذا كان فتوى الحي بجواز البقاء بمعنى أن المكلف يتخيّر حدوثاً وبقاءً بين البقاء على تقليد الميت والعدول عنه ، فكما يجوز له أن يعدل إلى الحي بعد موت المجتهد المقلّد أو يبقى على تقليده ، كذلك يجوز له ذلك بعد الأخذ بأحدهما والعمل على طبقه مدّة من الزمان ، جاز للمقلّد العدول إلى الحي وإن رجع إلى الميت في مسألة البقاء لأنه معنى كونه مخيراً بحسب الحدوث والبقاء . وهذا المعنى هو الصحيح وذلك لأن الأخذ بفتوى المجتهد بعد موته وسقوطها عن الحجية بسببه لا يزيد على الأخذ بها في حياته وقبل سقوطها عن الحجية بموته ، فكما أن الأخذ السابق لا يوجب بقاء فتاوى الميت على حجيتها التعيينية بعد موته ، ومن هنا جاز للمقلّد بعد موت المجتهد بل وجب عليه العدول إلى الحي فليكن الأخذ المتأخر عن سقوط فتاواه عن الحجية وموته أيضاً كذلك ، فليس الأخذ بعد موته موجباً لأن يتصف فتاواه بالحجية التعيينية ، فالمقلّد يتخيّر بين العدول والبقاء حدوثاً وبقاءً ومعه إذا رجع إلى الميت في مسألة البقاء ، لم يجب عليه أن يبقى على تقليده في بقية المسائل الفرعية ، بل له أن يعرض عن البقاء في تلك المسألة ويعدل إلى الحي سواء في ذلك بين أن يكون نظر الميت والحي متحدين فيما هو الموضوع للحكم في مسألة البقاء وبين أن يكون مختلفاً فلاحظ ، هذا كلّه في هذه الصور .


    اختلاف الحي والميت في مسألة البقاء


   وأما الصورتان اللّتان وعدنا التعرض لهما بعد الفراغ عن الصور الأربع المتقدمة فهما ما إذا أفتى الحي بجواز البقاء أو بوجوبه وأفتى الميت بحرمته ، فهل للمقلّد أن يبقى على تقليد الميت في مسألة البقاء لحجية فتاواه بفتوى الحي بجواز البقاء أو بوجوبه 


ــ[157]ــ


والمفروض أنه قد عمل بها حال حياة المجتهد الميت أو أنه تعلّم حكمها ، ليلزم من بقائه على تقليده في تلك المسألة حرمة البقاء على تقليده ، أو أن المقلّد ليس له البقاء على تقليده في مسألة البقاء ، ويجوز له أو يجب عليه البقاء على تقليده في بقية المسائل الفرعية ؟ وبعبارة اُخرى تجويز الحي أو ايجابه البقاء على تقليد الميت هل يشمل مسألة البقاء أيضاً حتى يلزم منه حرمة البقاء في بقية المسائل أو لا يشملها ، فله أن يبقى على تقليد الميت في بقية المسائل ؟


   الثاني هو الصحيح لأنه لا مانع من البقاء على تقليد الميت في المسائل الفرعية غير مسألة البقاء والوجه فيه : أن فتاوى الميت قد سقطت عن الحجية بموته فلا تتصف بالاعتبار ، إلاّ إذا أفتى الحي بحجيتها التخييرية كما إذا جوّز البقاء على تقليده أو التعيينية كما إذا أوجبه ، وفتوى الميت بحرمة البقاء لا يمكن أن تتصف بالحجية في مسألة البقاء بفتوى الحي بجواز البقاء أو بوجوبه ، لأن شمول تجويز الحي أو إيجابه لفتوى الميت بحرمة البقاء ، يستلزم عدم شموله لها ويلزم من حجية فتوى الميت عدم حجيتها ، وما استلزم فرض وجوده عدمه فهو محال . والوجه في هذا الاستلزام أن الميت يفتي بحرمة البقاء ، فلو كانت فتواه هذه حجة شرعية ـ بأن شملتها فتوى الحي بجواز البقاء ـ لزم منها عدم حجية فتاواه الّتي منها فتواه بحرمة البقاء . إذن لا يمكن أن تشمل فتوى الحي بالجواز أو الوجوب لفتوى الميت بحرمة البقاء ، وهذا بخلاف سائر فتاواه ، فإنه لا محذور في حجيتها بشمول فتوى الحي لها ، هذا .


   على أ نّا لا نحتمل شمول فتوى الحي بجواز البقاء أو بوجوبه لفتوى الميت بحرمته وذلك لأن في الواقع ومقام الثبوت لا يخلو إما أن يكون البقاء على تقليد الميت محرّماً لارتفاع حجية فتاواه بموته ، وإما أن يكون جائزاً ـ بالمعنى الأعم ـ ولا تكون حجية فتاواه ساقطة بموته ولا ثالث ، فإن كان البقاء محرّماً واقعاً كانت فتوى الحي بجواز البقاء مخالفة للواقع ومعه لا تتصف بالحجية الشرعية لمخالفتها للواقع على الفرض وإذا سقطت فتوى الحي عن الحجية لم تكن فتوى الميت بحرمة البقاء حجة بوجه لسقوط فتاواه عن الحجية بموته ، وإنما تتصف بالاعتبار إذا أفتى الحي بحجيتها وقد فرضنا أنها ساقطة عن الحجية لمخالفتها للواقع ، فهي غير معتبرة في نفسها فما ظنك بأن تكون 


ــ[158]ــ


موجبة لحجية فتوى الميت بحرمة البقاء . وأما إذا كان جائزاً بحسب الواقع ففتوى الحي بجواز البقاء مطابقة للواقع إلاّ أن فتوى الميت بحرمة البقاء مخالفة له فلا تكون حجة بوجه . إذن لنا علم تفصيلي بعدم حجية فتوى الميت بحرمة البقاء سواء أكانت مطابقة للواقع أم مخالفة له وفتوى الحي بجواز البقاء ـ بالمعنى الأعم ـ غير محتملة الشمول لفتوى الميت بحرمة البقاء ، ومع عدم احتمال حجيتها بحسب الواقع ومقام الثبوت كيف يعقل أن يشملها دليل الحجية وهو فتوى الحي في مقام الاثبات .


   ونظير ذلك ما ذكرناه في التكلم على حجية الخبر من أن الخبر الواحد إذا دلّ على عدم حجية الخبر الواحد ، لم تشمله الأدلة القائمة على حجية الخبر ، لأنه يلزم من شمولها له وحجيته عدم شمولها له وعدم حجيته . على أ نّا لا نحتمل حجيته بحسب الثبوت ، لأنه لا يخلو إما أن لا يكون الخبر الواحد حجة شرعاً وإما أن يكون حجة ولا ثالث ، فعلى الأول لا حجية للخبر النافي لحجية الخبر لما فرضناه من عدم حجية الخبر واقعاً وهو أيضاً خبر واحد فلا يثبت به مدلوله ، وعلى الثاني أيضاً لا يتصف النافي بالحجية لأنه على خلاف الواقع لما فرضناه من حجية الخبر واقعاً ، فعلى كلا التقديرين لا حجية للخبر النافي لحجيته والأدلة غير شاملة له في مرحلة الاثبات بعد عدم احتمال حجيته في مرحلة الثبوت .


   وببيان أوضح وأحسن أن معنى فتوى الحي بجواز البقاء ـ بالمعنى الأعم ـ أن المقلّد له أن يبقى على تقليد الميت في المسائل الفرعية ، كما أن معناها عدم جواز البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء ، ولا يعقل أن تشمل فتوى الحي بالجواز كلتا المسألتين أعني مسألة البقاء وسائر المسائل ، لوضوح أنها إن شملت لمسألة حرمة البقاء فمعناها عدم جواز البقاء على تقليد الميت فى بقية المسائل فإن الميت أفتى بحرمة البقاء ، وإن شملت بقية المسائل الفرعية فمعناها عدم جواز البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء وإلاّ حرم عليه البقاء في بقية المسائل .


   ففتوى الحي بالجواز إما أن تشمل مسألة البقاء فحسب ، وإما أن تشمل سائر المسائل الفرعية ولا يمكن الجمع بينهما في الشمول إلاّ أن فتوى الحي بحجية فتوى 


ــ[159]ــ


الميت لا يمكن أن تشمل مسألة البقاء وذلك لاستحالته في نفسه ، وذلك لأن احتمال المطابقة للواقع معتبر في حجية الحجج لوضوح أن حجيتها لا تجامع القطع بمخالفتها للواقع ، ولا يحتمل أن تكون فتوى الميت بحرمة البقاء مطابقة للواقع وتكون فتوى الحي بحجية فتوى الميت شاملة لمسألة البقاء ، لأن البقاء على تقليد الميت إما أن يكون محرّماً في الواقع وإما أن يكون جائزاً ، فعلى الأول لا يمكن البقاء على تقليد الميت في مسألة البقاء لأنه أمر محرّم واقعاً ، وفتوى الحي بجوازه ساقطة عن الحجية لمخالفتها للواقع على الفرض ، وعلى الثاني تسقط فتوى الميت بحرمة البقاء عن الحجية لمخالفتها للواقع . وإذن لنا علم تفصيلي بسقوط فتوى الميت بحرمة البقاء عن الحجية على كلا التقديرين ، وأن فتوى الحي بالجواز غير شاملة لمسألة البقاء . وإذا فرضنا أن فتوى الحي لم تشمل مسألة البقاء فلا مانع من أن تشمل البقاء على تقليد الميت في سائر المسائل كما لعلّه ظاهر .


   ثمّ إن بما ذكرناه اتضح الفرق بين هذه المسألة ومسألة ما إذا أفتى الميت بوجوب البقاء والحي بجوازه ، وحاصل الفرق أنه لا يمكن الجمع بين حرمة البقاء على فتوى الميت وجواز البقاء عليها ، فإذا أفتى الميت بحرمة البقاء وأفتى الحي بجوازه لم يكن البقاء على تقليد الميت في هذه المسألة من جهة فتوى الحي بالجواز ، وهذا بخلاف ما إذا أفتى الميت بوجوب البقاء ، وأفتى الحي بجوازه ، فإنه لا مانع من الجمع بينهما ونتيجة ذلك أن يتخيّر المكلف بين العدول من الميت إلى الحي ، لأن فتوى الميت بالوجوب كسائر فتاواه قد سقطت عن الحجية بموته ، وأن يبقى على تقليد الميت حتى في فتواه بوجوب البقاء ونتيجته أن تكون فتوى الميت حجة تعيينية من جهة اختيار المقلّد والتزامه . نعم ، إذا قلنا بأن فتوى الحي بجواز البقاء مرجعها إلى التخيير الاستمراري ، وأن المقلّد متى ما أراد الرجوع إلى الحي جاز له ذلك ، لم يمكن البقاء على تقليد الميت في حكمه بوجوب البقاء ، فإن معنى الحكم بوجوبه عدم جواز الرجوع عنه إلى الحي وهذا لا يجتمع مع فتوى الحي بجواز البقاء والرجوع مستمراً .


 ــ[160]ــ


   [ 16 ] مسألة 16 : عمل الجاهل المقصّر الملتفت باطل وإن كان مطابقاً ((1)) للواقع (1) .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   حكم عمل الجاهل المقصِّر والقاصر


   (1) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :


   أحدهما : أن الجاهل يستحق العقاب على أعماله إذا لم تكن مطابقة للواقع ، بل مطلقاً أو لا يستحق عليها العقاب ؟


   وثانيهما : أن أعمال الجاهل القاصر أو المقصّر صحيحة أو باطلة ؟


   أما المقام الأول : فلا ينبغي التردد في أن الجاهل القاصر لا يستحق العقاب على شيء من أعماله سواء أكانت مطابقة للواقع أم مخالفة له ، كما إذا استند إلى أمارة شرعية أو فتوى من يجوز تقليده وكانتا مخالفتين للواقع ، وذلك لقصوره وقتئذ لاستناده في أعماله إلى الحجة الشرعية على الفرض .


   وأما الجاهل المقصّر فهو على عكس الجاهل القاصر يستحق العقاب على أعماله إذا كانت مخالفة للواقع ، وذلك لأنه قد قصّر في الفحص والسؤال وخالف الواقع من غير أن يستند فيه إلى حجة شرعية . بل الأمر كذلك حتى إذا كان عمله المخالف للواقع مطابقاً لفتوى من يجب عليه تقليده في ظرف العمل أو في زمان الرجوع إليه ، فإن الحجة بوجودها الواقعي غير كافية في المعذورية وعدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع ، بل إنما تكون معذّرة فيما إذا استند إليها المكلف في عمله ، والاستناد إلى الحجة مفروض العدم في محل الكلام . بل يمكن الالتزام باستحقاق المقصّر العقاب حتى إذا كان عمله مطابقاً للواقع إلاّ أنه يختص بما إذا كان ملتفتاً حال العمل ، وذلك لأنه مع الالتفات واحتمال صحة العمل وفساده ، إذا أتى به غير مبال بمخالفته للواقع لكان ذلك مصداقاً بارزاً للتجري القبيح ، وبذلك يستحق العقاب على عمله وإن كان مطابقاً للواقع .


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) الظاهر هو الصحة في هذا الفرض .


ــ[161]ــ


   وأما المقام الثاني : فحاصل الكلام فيه أن التكلم على أعمال الجاهل المقصّر من عباداته ومعاملاته وأنها تقع صحيحة أو فاسدة ، إنما يخص أفعاله الّتي يترتب على صحتها أو فسادها أثر عملي بالإضافة إلى زماني الحال أو الاستقبال ، كما إذا أتى بالعبادة جاهلاً بحكمها في أول وقتها والتفت إلى حكمها في أثنائه أو في خارجه ، فإنه إذا قلنا ببطلانها ترتب عليه الحكم بوجوب إعادتها أو قضائها كما يترتب على القول بصحتها عدم وجوب الاعادة أو القضاء . وكما إذا عامل معاملة معاطاتية غير عالم بحكمها ، ثمّ فسخ البائع المعاملة فإنا لو قلنا بفساد المعاملة ، وجب على كل من البائع والمشتري ردّ ما أخذه إلى مالكه ومع تلفه يرد عليه بدله ، ولو قلنا بجواز المعاملة لأجل أن المعاطاة مفيدة للملكية الجائزة القابلة للانفساخ بفسخها وجب على كل منهما ردّ ما أخذه إلى بائعه ، وإن قلنا إن المعاملة لازمة وأن المعاطاة مفيدة للملك اللاّزم لم يجب على المشتري ولا على البائع ردّ العين أو عوضها بوجه . وكذلك الحال في المعاملات بالمعنى الأعم ، كما إذا غسل المتنجّس بالبول مرّة واحدة في الكثير ، ثم التفت وتردد في اعتبار التعدد فيه لأ نّا لو قلنا باعتبار التعدد حتى في الغسل بالماء الكثير ، وجب غسل المتنجّس مرّة ثانية في مفروض الكلام كما يجب غسل ما لاقاه المتنجس مع الرطوبة قبل الغسلة الثانية ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بكفاية المرّة في الماء الكثير . وكذا إذا ذبح ذبيحة بغير الحديد بالاختيار ، ثمّ التفت إلى شرطية الحديد ـ  وهي باقية بحالها  ـ لأ نّا لو قلنا بكونها ميتة حرم أكلها وبطلت الصلاة في أجزائها كما أنه لو لم نقل بكونها كذلك حلّ أكلها وجازت الصلاة في أجزائها .


   وأما أفعاله الّتي لا يترتب أثر عملي على صحتها وفسادها بالإضافة إلى زماني الحال أو الاستقبال فهي خارجة عن محل الكلام ، لأنه لا أثر للبحث عن صحتها وعدمها ، وهذا كما إذا شرب العصير العنبي بعد غليانه وقبل تثليثه ثمّ التفت وتردد في جوازه وحرمته ، فإنه لا أثر للحكم بحرمته وحليته ، لوضوح أنه لو كان محرّماً فقد مضى ويعاقب على فعله ذلك لحرمته ، وإن كان حلالاً فلا يعاقب بشيء فلا أثر لهما بالإضافة إلى زماني الحال أو الاستقبال .


   إذا عرفت ذلك فنقول : إن الماتن ذهب إلى بطلان عمل الجاهل المقصّر الملتفت 


ــ[162]ــ


وإن كان مطابقاً للواقع ، والظاهر أنه استند في ذلك إلى أن المقصّر الملتفت لا يتمشى منه قصد التقرب في عباداته ، وذلك بقرينة قوله عند الحكم بصحة عمل الجاهل القاصر أو المقصّر الغافل : وحصل منه قصد القربة .


   والصحيح أن عمل الجاهل المقصّر كالقاصر محكوم بالصحة ملتفتاً كان أم لم يكن إذا كان مطابقاً للواقع ، وذلك أما في التوصليات فلأجل أن الاُمور التوصلية لا يعتبر فيها غير الاتيان بها مطابقة للواقع ، والمفروض أن المقصّر أو غيره أتى بما أتى به مطابقاً للواقع .


   وأما في العبادات فلأن العبادة كالواجب التوصلي وإنما تفترقان في أن العبادة زائداً على لزوم إتيانها بذاتها يعتبر إضافتها إلى المولى جلّ شأنه نحو إضافة ، وهذا أمر ممكن الصدور من الجاهل ، أما غير الملتفت فظاهر وأما الملتفت فلأنه إذا أتى بها برجاء أنها مما أمر به الله سبحانه تحققت به الإضافة نحوه ، فإذا كانت مطابقة للواقع كما هو مفروض الكلام وقعت صحيحة لا محالة .


   نعم ، الّذي لا يتمكن منه الجاهل الملتفت إنما هو الجزم بأن ما يأتي به مأمور به من الله لتردده وعدم علمه بذلك بحيث لو أتى به جازماً بأنه مأمور به في الشريعة المقدسة فقد شرّع . إلاّ أ نّا قد أسبقنا (1) عند التكلم على مشروعية الاحتياط أن الجزم بالنية غير معتبر في صحة العبادات وأن الاتيان بها برجاء أن لا يكون تاركاً للعبادة على تقدير وجوبها في الواقع يكفي في صحتها وسقوط أمرها وامتثاله إذا كانت مطابقة للواقع ، وهذا يبتني على مسألة جواز الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي وتحصيل العلم بالمأمور به ، وقد أسمعناك جوازه فراجع .


   إذن لا موجب للحكم ببطلان عمل الجاهل المقصّر الملتفت إذا انكشفت مطابقته للواقع .


   نعم ، ذكر شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) أن ظاهر كلام السيد الرضي (قدّس سرّه) في مسألة الجاهل بوجوب القصر وظاهر تقرير أخيه السيد المرتضى (قدّس 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) راجع ص 51  .


ــ[163]ــ


سرّه) : ثبوت الاجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها (1) ، إلاّ أنه غير صالح للاستدلال به وذلك لأنه من الاجماع المنقول الّذي لا نقول باعتباره ، فالاجماع غير متحقق في نفسه ، وعلى تقدير تحققه لم يحرز أنه إجماع تعبدي كاشف عن قول المعصوم (عليه السّلام) لاحتمال استناد المجمعين إلى عدم تمشي قصد القربة من الجاهل الملتفت أو إلى اعتبار الجزم بالنية في العبادات أو غير ذلك من الوجوه .


   نعم ، لا ينبغي التأمل في أن عمل الجاهل محكوم بالبطلان في مرحلة الظاهر لدى العقل ما لم ينكشف مطابقته للواقع ، لأن العقل لا يكتفي بما أتى به الجاهل مع التردد في صحته ومطابقته للواقع ، لأن العلم بالاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية إلاّ أنه حكم عقلي في مرحلة الظاهر ويرتفع إذا انكشفت مطابقة ما أتى به الجاهل للواقع .


   والمتلخص : أن عمل الجاهل القاصر والمقصّر الملتفت وغير الملتفت في الحكم سواء .


   ثمّ إن انكشاف المطابقة للواقع قد يكون وجدانياً وهذا من القلّة بمكان ، لأنه لا يتفق للعامّي العلم الوجداني بمطابقة عمله للواقع إلاّ في الضروريات والقطعيات والمسائل الواضحة وهي قليلة في الغاية . وقد يكون بالتعبد وهو الأكثر ، وذلك لأنه إذا لم يكن للعامّي علم وجداني بالمطابقة فلا مناص من أن يستكشف مطابقة عمله للواقع بالرجوع إلى فتوى المجتهد فإن بالمطابقة أو المخالفة معها يستكشف تعبداً مطابقة عمله للواقع أو مخالفته له ، وهذا هو الّذي يتمكن منه المقلّد غالباً . وعليه فإن كان المجتهد الّذي كان يجب عليه أن يقلّده في زمان العمل والمجتهد الّذي يجب عليه تقليده في زمان الرجوع شخصاً واحداً فهو ، وأما إذا تعددا وكان المجتهد الّذي يجب الرجوع إليه في ظرف العمل غير المجتهد الواجب تقليده في زمان الرجوع ، فإن كان عمله موافقاً لكلتا الفتويين فلا كلام في صحته ، كما أنه إذا كان مخالفاً لكلتيهما لم تكن شبهة في فساده ووجوب إعادته . وإنما الكلام فيما إذا كان مطابقاً لفتوى أحدهما ومخالفاً لفتوى الآخر ، فهل اللاّزم تطبيق عمل الجاهل لفتوى المجتهد الّذي كان يجب 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد : 49 .


ــ[164]ــ


تقليده في ظرف العمل أو أن اللاّزم تطبيقه لفتوى المجتهد الّذي يجب تقليده في زمان الرجوع أو المدار على مطابقته لكلتا الفتويين ومع فرض المخالفة لاحداهما يحكم ببطلانه ؟


   الصحيح أن المدار في ذلك على مطابقة العمل لفتوى المجتهد الواجب تقليده في زمان الرجوع ، ولا عبرة بفتوى المجتهد الّذي كان يجب عليه تقليده في زمان العمل ، وسرّه ما قدّمناه في مباحث الاجزاء وغيرها من هذا الكتاب (1) وفي بحث الاُصول (2) من أن الأحكام الواقعية لا تتغير عمّا هي عليه بفتوى المجتهد أو بقيام الأمارة على خلافها، أللّهمّ إلاّ على القول بالسببية ولا نقول بها، وحيث إن الاعادة وعدمها فعل من أفعال المكلف وهو لا يدري حكمها عند الالتفات إلى عمله السابق الصادر عن الجهل ، فلا مناص له من أن يرجع في حكمها إلى من يجب تقليده في زمان الابتلاء بالشك في وجوب الاعادة، وهو المجتهد الّذي يجب تقليده في زمان الرجوع وذلك لاطلاق أدلة التقليد ، فإنه إذا أفتى بصحة ما أتى به المكلف جاهلاً بحكمه ، فمعناه أن إعادته الّتي يشك المكلف في وجوبها بالفعل غير واجبة في حقه، كما أنه إذا أفتى بفساده كان معناه وجوب الاعادة عليه . وأما فتوى المجتهد الّذي كان يجب عليه تقليده في ظرف العمل فلا يترتب على فتواه بصحة ذلك العمل أو فساده أثر بالإضافة إلى المكلف عند الشك في وجوب إعادته ، لأنها قد سقطت عن الحجية بموت المجتهد أو بنسيانه أو بغيرهما من أسباب السقوط ، والفتوى غير المتصفة بالحجية لا يترتب عليها أثر بوجه .


   إذن فالمتعيّن الرجوع إلى من يجب عليه تقليده في ظرف الرجوع، لشكه في وجوب إعادة الفعل الّذي أتى به سابقاً وهو مما يجب أن يسأل حكمه عن الفقيه الّذي تتصف فتواه بالحجية في حقه لدى السؤال وهو المجتهد الفعلي لا السابق الّذي سقطت فتواه عن الحجية على الفرض ، وقد مرّ أن فتواه بالصحة تلازم الحكم بعدم وجوب 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) راجع ص 40  .


(2) مصباح الاُصول 2 : 96 .


ــ[165]ــ


الاعادة كما أن فتواه بالفساد ملازمة للحكم بوجوبها ، وتوضيح ذلك :


   أن المجتهد الّذي تجب المراجعة إليه في ظرف الرجوع وإن لم تكن فتواه متصفة بالحجية من الابتداء وإنما حدثت حجيتها بعد ذلك ، إما لأنه لم يكن لها موضوع سابقاً لعدم كونه مجتهداً في ظرف العمل ، وإما لعدم كونه واجداً لبعض الشروط كالأعلمية أو العدالة ونحوهما ، إلاّ أن ما تتضمنه تلك الفتوى بعدما اتصفت بالحجية حكم كلّي إلهي لا يختص بوقت دون وقت ، بل يعمّ الأزمنة المتقدمة والمتأخرة ، مثلاً إذا أفتى بوجوب التيمم على المتيمم بدلاً عن غسل الجنابة إذا أحدث بالأصغر ولم يجوّز الوضوء في حقه ، شملت فتواه هذه الأزمنة السابقة واللاّحقة لأن مضمونها حكم عام قد استكشفه المجتهد من أدلته ولا اختصاص له بعصر دون عصر . فإن مقتضى تلك الفتوى أن حكم الله المجعول في حق المتيمم بدلاً عن غسل الجنابة إذن أحدث بالأصغر هو التيمم دون الوضوء ، ولازمه بطلان الصلوات الّتي أتى بها المكلف سابقاً مع التوضؤ بعد التيمم بدلاً عن غسل الجنابة ، فبالفتوى المتأخرة الحادثة حجيتها يستكشف بطلان الأعمال السابقة في ظرف الصدور . والحكم ببطلانها وإن لم يترتب أثر عليه بالإضافة إلى الأزمنة المتقدمة ، إلاّ أن له أثراً بالإضافة إلى زمان الحال والأزمنة الآتية ، لأن لازمه وجوب الاعادة أو القضاء .


   وملخص الكلام أن وجوب إعادة الأعمال السابقة وعدمه من المسائل الّتي يجب الرجوع فيها إلى الفقيه الّذي تتصف فتاواه بالحجية وليس ذلك إلاّ المجتهد الفعلي لسقوط فتوى المجتهد السابق في ظرف العمل عن الحجية بالموت أو نحوه ، لوضوح أنه لو لم تسقط فتاواه عن الحجية لم يجز له تقليد المجتهد الحاضر ، وقد فرضنا أن فتوى المجتهد الفعلي بطلان الصلاة مع الوضوء في تلك المسألة ، ومضمونها أن ذلك هو حكم الله الواقعي العام غير المختص بوقت دون وقت .


   نعم ، لا مناص من الالتزام بعدم وجوب الاعادة أو القضاء في الموارد الّتي قام الدليل فيها على عدم الوجوب ، وذلك كما إذا أخلّ في الصلاة بغير الأركان من أجزائها أو شرائطها بأن صلّى بلا سورة أو أتى بالتسبيحات الأربع مرة واحدة وكانت فتوى المجتهد الفعلي وجوب السورة أو وجوب التسبيحات ثلاث مرات ، وذلك لحديث 


ــ[166]ــ


لا  تعاد لدلالته على عدم وجوب الاعادة إلاّ من الخمسة المذكورة في الحديث وليست منها السورة أو التثليث في التسبيحات الأربع ، بل لا تجب إعادة الصلاة في أمثال المقام وإن كان عمله مخالفاً لكلتا الفتويين ، كما إذا أفتى كل من المجتهد السابق واللاّحق بوجوب السورة أو التثليث في التسبيحات الأربع . إذن ، الاخلال بغير الخمسة الواردة في الحديث غير موجب لبطلان الصلاة ولا لاعادتها إلاّ فيما دلّ الدليل على وجوب الاعادة فيه كما إذا كبّر جالساً وكانت وظيفته الصلاة قائماً ، أو كبّر قائماً وكانت وظيفته الصّلاة جالساً وذلك للنص (1) هذا بالإضافة إلى الجاهل القاصر .


   وأما المقصّر فإن كان ملتفتاً حال العمل ومتردداً في وجوب السورة مثلاً في الصلاة ، فلا يشمله حديث لا تعاد لاختصاصه بما إذا حدث الشك في صحة العمل بعد الاتيان به بحيث لولا انكشاف الخلاف بعد ذلك لم تجب اعادته أو قضاؤه ، وليس الأمر كذلك في الجاهل المقصّر الملتفت حال العمل لأنه شاك في صحة عمله من حينه وقبل أن يأتى به ، ومقتضى أن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية أعني قاعدة الاشتغال ، وجوب الاعادة في أمثال المقام انكشف له الخلاف أم لم ينكشف كما أنه لو لم يأت به حتى خرج وقته وجب عليه القضاء لعدم اتيانه بما هو المأمور به الظاهري في حقه بقاعدة الاشتغال ، فقد فاتت عنه الصلاة ووجب عليه قضاؤها ظاهراً .


   وأما المقصّر غير الملتفت فقد ادعوا الاجماع على بطلان عمله وانّه كالعالم والمتعمد في ترك الواجب ومعه لا يفرق بين قسمي الجاهل المقصّر أعني الملتفت وغير الملتفت في بطلان عملهما وعدم كونهما مشمولين للحديث ، هذا إذا تمّ الاجماع كما ادعي .


   وأما لو لم يتم أو قلنا إن القدر المتيقن منه أن المقصّر كالمتعمد من حيث استحقاقه العقاب وتنجز التكليف عليه لا من حيث صحة العمل وبطلانه ، فلا مانع من شمول الحديث للمقصر غير الملتفت في نفسه وبه يحكم بصحة عمله وإن كان مخالفاً لفتوى كلا المجتهدين .


 ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) وسائل الشيعة 5 : 503 / أبواب القيام ب 13 ح 1 .


ــ[167]ــ


   وأما الجاهل القاصر أو المقصر الّذي كان غافلاً حين العمل وحصل منه قصد القربة ، فإن كان مطابقاً لفتوى المجتهد الّذي قلّده بعد ذلك كان صحيحاً ((1)) والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الّذي كان يجب عليه تقليده حين العمل (1) .


   [ 17 ] مسألة 17 : المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطلاعاً لنظائرها وللأخبار وأجود فهماً للأخبار ، والحاصل أن يكون أجود استنباطاً والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط (2) .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   (1) فقد اتضح تفصيل ذلك مما سردناه في التعليقة المتقدمة فلاحظ .


    ما يراد من الأعلم :


   (2) ليس المراد بالأعلمية في المقام أن يكون المجتهد أشد اقتداراً في القواعد والكبريات أعني المبادئ الّتي بها تستنتج الأحكام ، كما إذا كان المجتهد في المطالب الاُصولية أقوى من غيره ، ولا أن المراد بها أكثرية الاحاطة بالفروع والتضلع في الكلمات والأقوال ، كما إذا تمكن من الجواب عن أية مسألة ترد عليه ولو من الفروع الّتي لا يبتلى بها إلاّ نادراً ، أو لا يتحقق في الخارج أصلاً مع التطلع على أقوالها وموارد التعرض للمسألة في كلماتهم ، بل المراد بالأعلمية كون المجتهد أشد مهارة عن غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها ، وأقوى استنباطاً وأمتن استنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلتها، وهو يتوقف على علمه بالقواعد والكبريات وحسن سليقته في تطبيقها على صغرياتها ، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر .


   والوجه في هذا التفسير : أن حال الأعلم في علم الفقه حال الأعلم في بقية الحِرف والعلوم ، فكما أن الأعلم في الطب والهندسة والتجارة وغيرها هو الّذي يكون أعرف من غيره بتطبيق الكبريات على صغرياتها ، وأقوى استنباطاً لها عن قواعدها وهو 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) العبرة في الصحة بمطابقة العمل للواقع ، والطريق إليها هو فتوى من يجب الرجوع إليه فعلاً .


ــ[168]ــ


موقوف على المعرفة بالكبريات وحسن السليقة في تطبيقها على مصاديقها ، ولا يكفي في الأعلمية مجرد كون الطبيب أقوى في الكبريات أو أكثر اطلاعاً على الأمثال والفروع . بل لا بدّ مضافاً إلى إحاطته بأقسام المرض وطرق معالجتها وأدويتها أن يكون أعرف بتطبيق كبرياتها على مصاديقها ، فكذلك الحال في المقام . فلا اعتبار فيما نحن فيه بأكثرية الاحاطة بالفروع والأقوال والكلمات لأنها غير راجعة إلى الأعرفية في التطبيق ، لوضوح أنها ليست إلاّ حفظ الفتاوى والفروع وأجنبية عن الاستنباط بالكلّية ، كما أن شدة الاقتدار العلمي بالكبريات غير راجعة إلى الأعرفية في الاستنباط ، فإن ربّ شخص له اليد الطولى في الاُصول ، إلاّ أنه ضعيف في التطبيق والاستنباط ، هذا .


   بل الأمر كما ذكرناه وإن فرضنا أن الأعلم بحسب الهيئة أعني هيئة أفعل يشمل الأقوائية في القواعد والكبريات أو الأكثرية من حيث الاحاطة بالفروع والكلمات وذلك لأن الحكم بوجوب تقليد الأعلم لم يرد في شيء من الأدلة اللفظية ليلاحظ أن الأعلم هل هو ظاهر لدى العرف فيما يشمل الأعلمية من حيث القواعد والكبريات أو الاحاطة بالفروع والأقوال أو غير ظاهر في ذلك ، وإنما الحكم بوجوب تقليده مستند إلى بناء العقلاء أو العقل من باب قاعدة الاشتغال على ما قدّمنا تفصيله ، ولا شبهة في أن الأعلم الّذي يجب تقليده لدى العقلاء أو العقل إنما هو بالمعنى الّذي ذكرناه أعني الأعرف بتطبيق الكبريات على مصاديقها ، لأن الطبيب الأعلم عندهم من يكون أعرف بتطبيق الكبريات الطبية على صغرياتها كما مرّ .


   وبما ذكرناه يظهر أن كثرة العلم بالمسائل والفروع بحيث يكون معلومه بحسب العدد أكثر من غيره ، غير راجعة إلى الأعلمية فإنها أمر خارج عن الأعرفية في التطبيق . مضافاً إلى أن العالمية والأعلمية إنما تلاحظان بالإضافة إلى شيء واحد فيقال : زيد عالم بمسألة كذا وعمرو أعلم بها منه . وأما إذا كان هناك شيئان يعلمهما أحد المجتهدين ولم يعلم الآخر إلاّ بأحدهما فلا يصح أن يقال : إن الأول أعلم من الآخر بل هما متساويان في العلم بأحدهما ، وفي الآخر أحدهما عالم والآخر لا علم له به أصلاً لا أن الأول أعلم .


ــ[169]ــ


   [ 18 ] مسألة 18 : الأحوط عدم تقليد المفضول حتى ((1)) في المسألة الّتي توافق فتواه فتوى الأفضل (1) .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


وأما الأشدية في المراتب العلمية بأن يقال : إن من انكشف له حكم المسألة انكشافاً جزمياً فهو مقدّم على من انكشف له حكمها انكشافاً ظنياً مثلاً ، أو إن من انكشف له حكمها من أدلتها ظناً يتقدم على من لم يحصل له الظن بحكمها من أدلتها أو الأقوائية بحسب المبنى ، كما إذا كان أحد المجتهدين قوياً في مبانيه العلمية بحيث لا يشك فيها بتشكيك المشككين ، ولا يرفع اليد عنها بالمناقشة في أدلتها بخلاف الآخر ، فلا يمكن حمل الأعلم على شيء منهما ، وذلك لأنهما غير راجعين إلى الأعرفية في التطبيق . على أن الاجتهاد إنما يدور مدار قيام الحجة على الحكم وعدمه سواء انكشف بها الحكم الشرعي جزمياً أو ظنياً أم لم ينكشف ، وسواء أمكن التشكيك في مباني المجتهد أم لم يمكن ، فلا توقف للاجتهاد على شدة الانكشاف وضعفه ، ولا على قوة المباني وعدمها فلاحظ .


   (1) ذكرنا في المسألة الثانية عشرة أن الأعلم إنما يجب تقليده فيما إذا علمت المخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى ، وأما مع العلم بالموافقة بينهما أو احتمالها فلا يجب تقليد الأعلم بوجه ، لأن الحجية إنما ثبتت لطبيعي فتوى العالم أو الفقيه على نحو صرف الوجود ، فإذا عمل المقلّد بفتياهما فقد عمل على طبق الحجة أعني فتوى الفقيه ، ولم يقم دليل على وجوب تعيين المجتهد المقلّد وتمييزه حينئذ وهو نظير ما إذا ورد روايتان ودلتا على وجوب شيء معيّن وأفتى المجتهد بوجوبه استناداً إلى الجامع بين الروايتين ، فإنه حينئذ قد عمل على طبق الحجة الشرعية ، ولا يجب عليه أن يعيّن ما عمل به منهما ، فما يظهر من الماتن من لزوم تعيين المجتهد المقلّد في مفروض الكلام مما لا مستند له ، وتوضيح ذلك :


   أن المجتهدين المتعددين إذا اتفقوا في الاجتهاد لم يقم أي دليل على أن العامّي يجب أن يستند إلى فتاواهم في مقام العمل ، تساووا في الفضيلة أم اختلفوا وقد تكلمنا على 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) لا بأس بتركه في هذا الفرض .


ــ[170]ــ


ذلك في محلّه (1) فلا نعيد ، إلاّ أ نّا لو قلنا بوجوب الاستناد فهل الواجب أن يستند إلى خصوص فتوى أحدهم المعيّن ، أو يكفي الاستناد إلى الجامع أو المجموع ؟


   الصحيح أن الاستناد إلى فتوى أي واحد من المجتهدين المتفقين في الاجتهاد يجزي في مقام الامتثال ، وذلك لشمول أدلة الحجية لفتوى كل واحد منهم في محل الكلام وسرّه أن الحجية نظير غيرها من الأحكام الوضعية أو التكليفية قد جعلت لطبيعي الدليل وهو قابل الصدق على الواحد والكثير . إذن فموضوع الحجية في المقام إنما هو طبيعي فتوى العالم أو الفقيه وهو قابل الانطباق على فتوى كل من المجتهدين وبهذا تتصف كل واحدة من الفتاوى المتفقة بالمنجّزية والمعذّرية ، ويسوغ للمكلف أن يستند إلى فتوى هذا بخصوصها وإلى فتوى ذاك كذلك .


   كما أن له أن يستند إلى الطبيعي الملغى عنه الخصوصيات والمشخصات والكثرات والمميزات لأنه الموضوع للحجية ، كما هو الحال في بقية الحجج المتفقة في المضمون وبهذا يظهر أن الاستناد إلى مجموع الفتاوى غير صحيح ، لأن المجموع بما هو مجموع أعني اعتبار ضم كل واحدة منها إلى الاُخرى في مقام الاستناد ينافي حجية كل من الفتاوى في نفسها ، لما ذكرناه من أن كل واحدة من الفتاوى حجة على استقلالها فلا معنى لانضمام بعضها إلى بعضها الآخر في مقام الاستناد ، وبعبارة اُخرى أن كل واحدة منها معذّرة ومنجّزة لا أنها جزؤهما . وأما الاستناد إلى المجموع لا بما هو كذلك ، بل بمعنى الجميع بأن يستند إلى هذا في نفسه وإلى ذاك كذلك وهو المعبّر عنه بالعموم الاستغراقي ، فلا يرد عليه المحذور المتقدم لعدم كون الاستناد إلى الفتوى الثانية منافياً لحجية الاُولى باستقلالها إلاّ أنه لغو لا أثر له ، فإنه بعد حجية كل واحدة من الفتاوى في نفسها وجواز الاستناد إليها باستقلالها لا حاجة إلى الاستناد إلى الاُخرى بوجه .


   ودعوى أن ذلك يستلزم توارد العلل المتعددة على معلول واحد . مندفعة بأن الداعي على الاتيان بالعمل أو تركه إنما هو ثبوت التكليف به أو بتركه ، فالامتثال مستند إلى التكليف الواحد وإن قامت عليه حجج متعددة .


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) راجع ص 107  .


ــ[171]ــ


   [ 19 ] مسألة 19 : لا يجوز تقليد غير المجتهد وإن كان من أهل العلم(1)، كما أنه يجب على غير المجتهد التقليد وإن كان من أهل العلم(2).


   [ 20 ] مسألة 20 : يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني كما إذا كان المقلّد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص(3) وكذا يعرف بشهادة عدلين ((1)) من أهل الخبرة (4) .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   (1) لأن الأدلة المتقدمة المسوّغة للتقليد غير شاملة للتقليد من غير المجتهد لاختصاصها بالعالم أو الفقيه أو غيرهما من العناوين الواردة في لسان الدليل غير الصادقة على غير المجتهد .


   (2) على ما فصلنا الكلام فيه في أول الكتاب وقلنا إن كل مكلف لا بدّ أن يكون في أعماله أو تروكه مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً ، كما أن المجتهد ليس له أن يقلّد الغير ، إذ لا تشمله الأدلة المسوّغة للتقليد . وأما الواجد لملكة الاجتهاد إذا لم يتصد للاستنباط أصلاً أو أنه استنبط جملة قليلة من الأحكام فقد بيّنا في التكلّم على أقسام الاجتهاد أن الصحيح عدم مشروعية التقليد في حقه ، كما أنه لا يجوز التقليد منه إذا لم يتصد للاستنباط أصلاً فليراجع (2) .


    طرق معرفة الاجتهاد


   (3) لأنه حجة بذاته ، كما يثبت بالاطمئنان لأنه علم عادي وهو حجة عقلائية ولم يردع عنها في الشريعة المقدسة .


   (4) قد استدلّ على حجية البينة بوجوه :


   منها : دعوى الاجماع على اعتبارها في الشريعة المقدسة . وفيه : أن هذا الاجماع على تقدير ثبوته ليس من الاجماعات التعبدية ، لاحتمال استناده إلى أحد الوجوه 


ــــــــــــــــــــــــــــ


(1) لا يبعد ثبوته بشـهادة عدل واحد ، بل بشـهادة ثقة أيضاً مع فقد المعارض ، وكذا الأعلمية والعدالة .


(2) راجع ص 16  .